المختار السوسي: العلامة والأديب والمقاوم والوزير
الدار/ خاص
قلما اجتمعت هذه المقامات بشكل نوعي في شخصية مغربية خلال العقود الأخيرة، والحديث هنا عن مقام التفقه في الدين، والإبداع في الأدب والانخراط في المقاومة والأداء النوعي في الوزارة، وهذا ما نجح فيه محمد المختار بن علي بن أحمد السوسي، المعروف بـمحمد المختار السوسي.
يُعتبر المختار السوسي من رواد فكر النهضة في منتصف القرن العشرين بالمغرب. تنوعت إسهاماته بين فنون الأدب والشعر، وعلوم اللغة والفقه، والتصوف والتاريخ، وكان نشيطا في الدعوة إلى مقاومة المحتل. وقد جسّد نموذجا للجمع بين هوية أمازيغية -اهتم بإبراز مكوناتها وعناصرها الحضارية- وبين انتماء عربي أصيل.
ولد المختار السوسي في بلدة "إليغ" وهي قرية بناحية آيت أوفقا في السوس الأقصى جنوب المغرب شهر صفر عام 1318 هـ، الموافق لعام 1900، ونشأ بها، وحين بلغ سن الإدراك اتجه إلى الدراسة الأولية لتعلم الكتابة والقراءة واستظهار القرآن على عدة معلمين، أولهم والدته رقية بنت محمد بن العربي الأدوزي.
ومعلوم عند مؤرخي المغرب أن المختار السوسي نشأ صوفيا مغرقا في البحث عن سعادة الباطن ولوعا بتزكية النفس منصرفا عن شؤون الخلق، لكن لقاءه بأبي شعيب الدكالي، والشيخ محمد السائح، والمدني بن الحسني، غير مجرى حياته، ولو أن أثر النشأة القديمة ظل ماثلا في شخصيته ولنقل أن صوفيته شذبت اندفاعه السلفي وزينته برقائقها، فكان منهجه وسطا بين منهجين على الحقيقة، يقول السوسي في "الذكريات" متحدثا عن أحد أصفيائه: "وهناك جامع آخر بيني وبينه، وهو عدم إنكارنا كل جهود الصوفية، بل نقبل منها ما يردّه سوانا، وما يحملنا على ذلك إلا أننا عرفنا من القوم ما جهلوا".
انخرط السوسي في حركة النضال السياسي والثقافي الذي خاضته نخبة الوطنيين في مرحلة إقامته بمدينة فاس، حيث كان من رجال مقاومة الاستعمار الفرنسي للمغرب بالمنطقة الوسطى، وساهم خلال إقامته في فاس في تأسيس بعض الجمعيات السياسية السرية، والمنتديات الأدبية، واصل مقاومته بمراكش مما أدى إلى اعتقاله. وقال عن هذه المرحلة "في فاس استبدلت فكرا بفكر، فتكون لي مبدأ عصري ارتكز على العلم والدين، والسنة القويمة، وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك وكانوا نخبة في العفة والعلم والدين، ينظرون إلى بعيد"، كما نقرأ في كتابه المرجعي "الإيلغيات".
وساهم المختار السوسي في تأسيس جمعيتين الأولى ثقافية باسم جمعية الحماسة وترأسها هو نفسه، والثانية سياسية سرية ترأسها علال الفاسي. وكان أول مشروع بدأت به النخبة الوطنية نشر الوعي الإسلامي من خلال التطوع للتدريس بالمدرسة الناصرية باعتبار ذلك خطوة في تحقيق التغيير المنشود غير أن نشاط المدرسة لفت إليها أنظار الاستعمار فأغلقها.
وبعد مرحلة فاس والرباط، عاد إلى مراكش حيث اشتغل بالتعليم والتربية، واستعان بموارد أعماله التجارية وهبات المحسنين للإنفاق على طلبته مركزا على تدريس المواد التي حاربها المستعمر كاللغة العربية، والقرآن، والتاريخ المغربي، والسيرة النبوية، والأدب والتفسير. ومن وحي تجربته، حرض زملاءه على بناء مدارس حرة تتمرد على مقررات التعليم الاستعماري. ولم تتأخر سلطات الحماية في الانتباه إلى خطورة نهج السوسي فبادرت إلى نفيه عام 1937 إلى مسقط رأسه حيث قضى تسع سنوات بعيدا عن طلبته وزملائه.
ومباشرة بعد استقلال المغرب، سيتم تعيينه في أول حكومة مغربية بعد الاستقلال وزيرا للأوقاف العمومية عام 1955، ثم لما أسس مجلس التاج عين وزيرا عضوا فيه، وبقي متقلدا مهام تلك الوظيفة إلى أن توفي، كما أنه اشتغل عضوا في لجنة مدونة الفقه الإسلامي.
ألف المختار السوسي كتبا غزيرة ومتنوعة المضامين، تشكل مرجعا لا غنى عنه في البحث التاريخي والأدبي والفقهي في المغرب، حيث بحث في تاريخ منطقة سوس وأنجز تراجم لأعلامها، ونقّب في أسرار اللغة العربية وهو الأمازيغي المعتز بانتمائه، وكان رائدا في الشعر المغربي الكلاسيكي، وترجم نفائس من التراث العربي إلى الأمازيغية وكان من أعلام السلفية المجددة في العلوم الدينية، ومن أهم مؤلفاته، نذكر على الخصوص عمله المرجعي والتاريخي: "المعسول في الإلغيين وأساتذتهم وتلامذتهم في العلم والتصوف وأصدقائهم وكل من إليهم"، في نحو ثمانية آلاف صفحة في 20 جزءا صدرت ما بين سنة 1960 و1963 وهو موسوعة تراجم لنحو أربعة آلاف من العلماء والفقهاء والأدباء؛ ونذكر أيضا "خلال جزولة" في أربعة أجزاء وهو وصف لأربع رحلات علمية في المناطق السوسية وهو غني بالفوائد العلمية والأدبية والتاريخية؛ ثم "الإلغيات" في ثلاثة أجزاء تضمن مذكراته خلال نفيه إلى مسقط رأسه، وهو حافل بالأدب شعرا ونثرا والمناقشات العلمية والأدبية والتاريخية؛ و"سوس العالمة" وهو مقدمة لموسوعة المعسول اشتمل نظرة عامة على العلم وأعلامه ومؤسساته في منطقة سوس، كما ترجم "الأربعين حديثا النووية" و"الأنوار السنية" إلى الأمازيغية السوسية.