عبد الحفيظ باني.. مهندس البناء الذي يكشف للناشئة أسرار السماء
اسمه عبد الحفيظ باني، مهندس في البناء والأشغال العمومية على مشارف الأربعين من العمر، جعل من الإقبال على علم الفلك هواية تحولت مع الوقت إلى شغف وخبرة، ليصبح اليوم واحدا من الفاعلين الجمعويين القلائل الذين يفتحون أعين الناس على معالم الكون ويكشفون للناشئة أسرار السماء.
من مسقط رأسه بحي واد الذهب الشعبي بمدينة سلا، انطلقت رحلة حياة باني التي تدرج خلالها في مختلف أسلاك التعليم، وتوجت بنيل شهادة البكالوريا سنة 1999 في تخصص العلوم الرياضية. نباهته وتفوقه أهلاه لولوج الأقسام التحضيرية ونيل شهادة مهندس متخصص في الهندسة المدنية من المدرسة الحسنية للأشغال العمومية بالدار البيضاء سنة 2004.
ولعه بالفلك سيبدأ بعد دعوة تلقاها من أحد أصدقائه لحضور ورشة حول الموضوع من تنظيم النادي الفلكي بالدار البيضاء، سنة 2005، لتتوالى بعدها اللقاءات ويباشر رحلة تكوين ذاتي وسع خلالها المعارف وراكم الخبرات في مجال علم الفلك، ما جعله مؤهلا لنقل شغفه وتأطير ورشات خلال أمسيات فلكية تم تنظيمها في بادئ الأمر بعدد من المدارس العليا للمهندسين بالبيضاء والرباط منذ سنة 2012 من طرف (جمعية الدار البيضاء لعلم الفلك)، التي كان ينشط فيها.
الشغف نفسه قاده أواخر سنة 2013 لتأسيس (جمعية الرباط لعلم الفلك) التي يقول عبد الحفيظ باني، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إنها تهدف أساسا إلى تبسيط علم الفلك للمواطنين، مستعينا في ذلك بخبرته في المجال التي جعلته واحدا من تسعة مغاربة يتمتعون اليوم بصفة “سفير” لبرنامج دولي هو “برنامج غاليليو لتكوين المكونين”(GTTP) في مجال علم الفلك.
تتعدد المهارات التي بات باني يضبطها في مجال علم الفلك، وينقلها للمستفيدين من الورشات التي يؤطرها بما في ذلك “ورشة قراءة خارطة السماء وأبراجها”، و”التعرف على الاتجاهات”، و”ورشة الساعات الشمسية”، و”مشاهدة البقع السوداء على الشمس” و”التعرف على عدد كبير من الأبراج والكوكبات”، و”الحسابات الفلكية المتعلقة بمواقيت طلوع الأهلة”، و”مشاهدة القمر وكواكب أخرى بالتلسكوب”، وتتبع “مواعيد المرور المرئي للمحطة الفضائية الدولية في سماء المملكة المغربية” وغيرها.
هذه الورشات والأنشطة يقول باني إنه يؤطرها بشكل تطوعي باستخدام تلسكوبات اقتناها من ماله الخاص من ضمنها “أكبر تلسكوب متنقل في المغرب”، مؤكدا أنه ورفاقه في الجمعية يحرصون على ضمان حق الأطفال والفتيان من مختلف الطبقات الاجتماعية وبمختلف المناطق في استخدام التكنولوجيا واستكشاف الكون.
هذا الحرص على “دمقرطة الحق في الولوج إلى السماء” يعكسه تنوع المستفيدين من ورشات علم الفلك التي تنظمها جمعية الرباط لعلم الفلك. ذلك أن الرجل يذرع مع رفاقه المغرب من مدنه الكبرى إلى قراه النائية متأبطا رصيده المعرفي النظري وجهاز تلسكوب وكثيرا من الرسائل المحفزة على الإقبال على العلوم من أجل غد أفضل.
يتذكر باني في هذا الصدد، واقعة عن طفل من مدينة آزرو اسمه عبد الحليم، كان يتابع من بعيد ورشة يؤطرها لفائدة تلاميذ مدرسة خصوصية. يقول باني بدارجة تصف حال الصغير يومها: “ثيابه رثة لم يهتم أحد بنظافتها، لابس صندالة ديال الميكة، باينة فيه جاي بوحدو فقط بدافع الفضول والاستكشاف، لسان حاله ربما يقول هاد الأنشطة غي ديال اللي لاباس عليهم (الأغنياء) أما أنا نتفرج غير من بعيد”.
يروي رئيس جمعية الرباط لعلم الفلك كيف تقرب من الطفل وشجعه على الالتحاق بالورشة، ومشاركة أقرانه في النشاط الذي كان مخصصا لتقطيع أشكال كواكب المجموعة الشمسية وترتيبها وضبط أسمائها. ويقول “الولوج للعلم من حق الجميع”.
لا يتردد باني في الاستجابة لأي دعوة تقدم له لتأطير نشاط فلكي من الأنشطة في أي مدينة وقرية بالمغرب، وهو لا يعزف في ذلك منفردا، وإنما بمعية ثلة من الناشطين في هذا المجال، وعلى رأسهم البروفيسور حسن الدغماوي، أستاذ مادة الفيزياء بجامعة الأخوين بإفران، الذي اقترح عليه فكرة تنظيم مهرجان الرباط لعلم الفلك، الذي بلغ اليوم دورته الرابعة.
يقول باني “نظمنا أنشطة في العديد من المدن مثل سلا والرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش وأكادير ووجدة والحسيمة.. أطرنا ورشات في مناطق ربما لم تكن لتتاح لساكنتها فرصة مشاهدة التلكسوب ومعاينته إلا بعد سنوات طويلة، حدث ذلك في آيت عتاب (نواحي بني ملال)، وأكدز وأزرو والفقيه بنصالح وإفران وغيرها”.
بكثير من التواضع والفخر في آن واحد، يستحضر باني مظاهر الفرح التي تخلفها أنشطة الجمعية في صفوف الأطفال، وعلامات الدهشة التي تعلو وجوههم وهم يرون لأول مرة سطح القمر ويقرؤون خارطة السماء بمجموعاتها النجمية وكواكبها السيارة في فلك الله، وكل ذلك مرفوق بقصص عربية وإغريقية قديمة ممتعة في مجال الفلك عن مجموعة الدب الأصغر والدب الأكبر، وعن الشعرى اليمانية والشعرى الشمالية، وعن برج الجوزاء وغيرها.
“هناك من يطلق فقط صرخة مكتومة أو يغمغم بكلمات لا أسمعها، وهناك من يطلق تشبيهات يستقيها من واقعه. هناك أيضا من يطلق صرخات الإعجاب مثل وااااو و أوووه”، يقول باني معلقا على ردود فعل من يرون القمر بالتلسكوب لأول مرة، ويضيف “هناك من يظل مشدوها ولا يتحرك من مكانه ويلوذ بالصمت المطبق ويستمر في النظر بخشوع شديد لا يرغب في أن يقاطعه أحد”.
الذين يستفيدون من دورات باني ويتابعون أنشطة الرجل وجهوده في تقريب علم الفلك من عقول وقلوب الناشئة لا يخفون إعجابهم بتفانيه وتطوعه لخدمة الحس العلمي، ولا يستهينون مطلقا بما يمكن لمبادراته أن تحققه مستقبلا. تقول والدة أحد المستفيدين في تعليق لها على نشاط ميداني أطره لفائدة مجموعة من الأطفال “شكرا عبد الحفيظ. الأجمل أنك تجمع بين الإقناع والإمتاع”، فيما تضيف أخرى بالقول “من هنا تنبثق العقول الخلاقة. مجرد لمحة من جانب الطفل عبر التلسكوب يمكن أن تزرع فيه الفضول ليعرف المزيد”.
يعلق باني بالقول إن من سبقوه إلى هذا المجال لا يفتؤون يستحضرون نموذج تلميذة كانت قد استفادت من إحدى الورشات، وقادها الفضول إلى تتبع مسار أكاديمي يتعلق بهذا المجال توجته بالحصول على الدكتوراه في علم الفلك بباريس، وهي اليوم تتابع مرحلة ما بعد الدكتوراه في الشيلي التي تضم مراكز لأضخم التلسكوبات في العالم.
ما بين هندسة البناء على الأرض وهندسة النجوم والكواكب في السماء، يواصل باني تبسيط العلوم للناشئة في أرض الواقع أو على صفحته على فيسبوك وقناته على اليوتيوب، موظفا ما يتوفر عليه من إمكانيات تظل محدودة. وهو اليوم بصدد الإعداد لقافلة تعريفية بعلم الفلك تضم ورشات “الفلك الممتع” و”الفلك بالدارجة” و”حجايات النجوم”، وتجوب عددا من مدن المملكة، ويلتمس الدعم من المؤسسات والشركات المدعوة لتساهم مع جمعيته في مواكبة سعيها لمساعدة الناشئة على اكتشاف أسرار السماء.
p.p1 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; font: 12.0px ‘Geeza Pro’}
span.s1 {font: 12.0px ‘Helvetica Neue’}
المصدر: الدار ـ و م ع