فن وثقافة

كتاب “بابلو إسكوبار والدي”… الدار تقدم النسخة العربية (الحلقة 5)

الدار/ ترجمة حديفة الحجام

الفصل الثاني

ما هو مصير المال؟ (1)

عند العودة إلى "ريسيدينسياس تيكينداما"، بتاريخ الثالث من دجنبر 1993 بعد الرحلة المؤلمة والفجائية لدفن رفات والدي في ميديين، اتخذنا قرارا لا رجعة فيه بضرورة عيش حياة طبيعية في حدود ما تسمح به الظروف.

أنهيت أنا وأمي ومانويلا للتو أول أربع وعشرين ساعة الأكثر مأساوية في حياتنا، لأننا لم نتحمل ألم الفقدان بتلك الطريقة العنيفة لرأس الأسرة فحسب، وإنما كان الدفن أكثر صدمة.

وسبب ذلك أنه ساعات على تأكيد آنا مونتيس، المديرة الوطنية للنيابة العامة، شخصيا خبر موت والدي، اتصلنا بمقبرة "كامبوس دي باث" في ميديين ورفضوا الموافقة على الدفن؛ نفس الشيء كان سيحصل في "خاردينيس دي مونتيساكرو" لولا أن بعض أقارب محامينا في تلك الفترة، فرانثيسكو فيرناندث، كانوا مالكين للمكان.

وكانت جدتي إيرميلدا تمتلك في المقبرة مكانين قررنا دفن والدي وألفارو دي خيسوس أغوديلو، الملقب بـ "ليمون"، آخر حارس كان في رفقته.

وبعد تقييم مخاطر حضور مراسيم الدفن، خالفنا للمرة الأولى أمرا قديما لوالدي: "لا تذهبوا للمقبرة عند موتي، فقد يحصل شيء هناك". وأضاف بضرورة عدم إحضار ورود ولا حتى زيارة قبره.

ومع ذلك قالت أمي إنها ستذهب إلى ميديين ضدا على رغبة بابلو.

–حسنا سنذهب جميعا وإن قتلونا فليحدث إذا –هذا ما قلته واكترينا طائرة للتوجه إلى ميديين رفقة حارسين عينتهما النيابة العامة.

وبعد أن حطت الطائرة في مطار "أولايا هيريرا" وتجاوُزِ الحصار الذي فرضه عشرات الصحفيين ممن خاطروا بأنفسهم بعبور المدرج قبل أن تتوقف الطائرة. نقلت مانويلا وأمي على متن سيارة رباعية الدفع حمراء اللون وأنا وصديقتي على متن أخرى سوداء.

وما إن وصلنا إلى "خاردينيس دي مونتيساكرو" حتى اعترني دهشة عظيمة وأنا أرى حشود الحاضرين. ولقد كنت شاهدا على حب الناس البسطاء لوالدي، ولشد تأثري وأنا أسمع نفس الشعارات التي كانت تطلق حينما كان يدشن الملاعب الرياضية أو المراكز الصحية في المناطق المهمشة: "بابلو، بابلو، بابلو".

وبين الفينة والفينة كان العشرات يحيطون بالسيارة الحمراء ويشرعون في ضربها بشكل عنيف وهي تتوجه نحو المكان المخصص لدفن والدي. وسألني أحد حراس النيابة العامة وهو قلق إن كان بإمكانه النزول، فاستنتجت بداهة أن شيئا سيئا قد يحدث وأجبته بفكرة الانسحاب والتوجه إلى إدارة المقبرة وانتظار أمي وأختي. وفي تلك الأثناء تذكرت تحذير والدي وقررت أن من باب الحذر التراجع خطوة إلى الوراء.

 ودخلنا أحد المكاتب وبعد مرور دقائق جاءت الكاتبة وهي مرتعبة تبكي، وقالت إن أحدهم تحدث للتو عن إعلان هجوم. خرجنا نهرول وركبنا السيارة السوداء مجدد وظللنا هناك إلى أن انتهى كل شيء. ظللت هناك على بعد حوالي ثلاثين مترا، لكني لم أستطع حضور مراسيم الدفن، لم أستطع قول كلمة وداع لأبي.

وفي لحظة عادت والدتي ومانويلا وذهبنا إلى المطار للتوجه إلى بوغوتا. أحسست بنفسي منهارا محتقرا. وأتذكر أنه قبل الوصول إلى الفندق بعدة أمتار توقفنا عند إحدى إشارات المرور. ورأيت في الخارج خلف الزجاج المدرع رجلا يضحك ملئ شدقيه على الرصيف، لكن بعد التدقيق رأيت أنه كان يفتقد إلى أطرافه الأربعة. دفعتني تلك الصورة القاسية إلى التأمل في أنه ما دام ذلك الشخص المعاق لم يفقد القدرة على الضحك، فما هو عذري لأشعر بذلك القدر من الأسى. ولقد حُفرت صورة وجه ذلك الشخص المجهول في ذاكرتي إلى الأبد، كما لو أن الله وضعه هناك ليبعث لي رسالة تطمين.

وبالعودة إلى "ريسيدينسياس تيكينداما"، عرفنا أن الراحة التي كنا نبحث عنها بعد موت والدي عابرة وأننا سنحط عما قريب في الواقع الغامض الذي كان ينتظرنا. ولم يسبب لنا ما وقع لوالدي آلاما عميقة فحسب، بل تأكدنا من أن الحجز في ذلك الفندق في مركز بوغوتا محاطين بعملاء سريين وبعشرات الصحفيين المتربصين سيكون متعبا جدا.

وظهر في نفس الوقت شبح قلة المال كأنه كابوس مزعج. كيف لا ووالدي مات وليس لنا أحد نطلب منه المساعدة.

كنا ننزل في فندق بوغوتا المكلِّف منذ 29 نونبر، بعد رجوعنا من السفر الفاشل إلى ألمانيا، ولتقليل الخطر على محيطنا اكترينا الطابق التاسع والعشرين بأكمله لنقطن في خمس غرف فقط. بدأت وضعيتنا الاقتصادية تتأزم في أواسط دجنبر بعدما أرسل الفندق أول فاتورة للإقامة والمأكل شملت للمفاجأة استهلاك كل عناصر أمن الدولة.

وكانت التعريفة فلكية بسبب المأكولات والمشروبات المفرطة التي طلبها من كانوا يعتنون بنا. كانوا يتناولون الجمبري وسرطان البحر وأطباق فواكه البحر واللحوم الطيبة، بالإضافة إلى كل أنواع الخمور، سيما الويسكي منها. يبدو أنهم كانوا يختارون الأطباق والماركات الغالية.

دفعنا الفاتورة، لكن القلق من نفاذ المال كان يزداد كل حين ولم يبد أي حل في الأفق، إلى اللحظة التي قدم فيها عماتي ألبا مارينا ولوث ماريا وزوجها ليوناردو وأبناؤهما الثلاثة ليوناردو وماري لوث وسارة. لقد استحسنا الزيارة مع أنهم لم يأتوا إلينا منذ عدة أسابيع وأن العلاقة العائلية لم تكن على ما يرام.

وأخيرا جاء أحد تستطيع أختي أن تلعب معه بدماها، فقد قضت حوالي العام محتجزة لا تستطيع النظر عبر النافذة حتى، دون أن تعلم أين كانت ومن دون أي تفسير لسبب وجود أزيد من عشرين رجلا بأسلحتهم حولها، كما لو كانوا ينتظرون حربا تنشب.

جلسنا حول المائدة في غرفة الأكل، وبعد الحديث عن كل ما حدث في الأسابيع الأخيرة، تطرقت والدتي إلى قلقها من نفاذ المال. توقفنا عند الموضوع وقتا مهما، ووقع في خلدي أن ألبا مارينا ستكون الشخص المناسب لاسترجاع كمية غير محددة من المال بالدولار سبق وأخفاها والدي في مكانين مختلفين في المنزل الأزرق وذلك بسبب الموقف المتفهم والكريم الذي أبدته عائلة والدي. واعتقدت أن الوقت قد حان لاسترجاعها والحصول على نوع من الرخاء الاقتصادي.

جلست على الكرسي المجاور، وقبل أن أقترح عليها الأمر، تذكرت أن الشقة التي كنا نجلس فيها موضوع تنصت من طرف السلطات، إذ لم تكن تراقب الهواتف فحسب، وإنما قامت بزرع الميكروفونات في كل زاوية من الزوايا لأسباب أمنية. وسبق لي وبحثت عن تلك الأجهزة لدرجة الإرهاق، فقد فككت المصابيح والهواتف والأثاث وكل الأجهزة، وفتشت في قواطع الكهرباء، لكني لم أستفد إلا أن تسببت في قطع التيار كهربائي فانطفأت الأنوار في الطابق ككل.

في الأخير آثرت أن أسر لها في أذنها، وقبل أن أفعل ذلك شغلت التلفاز ورفعت صوته، ثم أخبرتها أنه حينما كنا نعيش في المنزل الأزرق أثناء فرارنا قرر والدي في ليلة من الليالي وضع جرد للوضع الاقتصادي. وبينما كان الجميع ينام أخذني إلى مكانين في المنزل، أحدهما في الغرفة القريبة من المدفئة والآخر في ساحة الملابس خلف حائط سميك، حيث أمر ببناء الأماكن. أراني الصناديق حيث أخفى المال نقدا وقال إنه باستثنائه هو وأنا الآن، الوحيد الذي كان يعلم ذلك المكان هو غوردو. وأضاف أن أمي لا تعلم ولا أخت،ي ولا حتى أشقاؤه يجب أن يعرفوا ذاك السر.

وحسب ما قال لي والدي –واصلت سرد القصة بينما كانت عمتي تستمع بانتباه– فالصندوقين فيهما ما يكفي للانتصار في الحرب والتعافي ماليا. ولهذا، حذرني، كان يجب علينا إدارتهما جيدا. وأخبرني أيضا أنه أمر بإحضار ستة ملايين دولار أخرى لأخيه روبرتو، ثلاثة لمصاريفه في السجن والثلاثة المتبقية يوفرها لنا. وختم الحديث بالقول إنه في حال حدث له شيء ما، فقد أعطى روبرتو أمرا واضحا بإعطائنا المال.

أنهيت القصة وذهبت إلى صلب الموضوع:

–عمتي، هل تتجرئين على الذهاب إلى ميديين في خضم تلك الحرب لاستعادة المال المخفي في الصندوقين؟ ليس لنا أحد آخر نطلب منه هذا المعروف ونحن كما ترين يتعذر علينا الذهاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية + 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى