فن وثقافة

لمحات من تاريخ الأندلس.. الحلقة الرابعة

الدار/ إعداد وترجمة حديفة الحجام

 

نماذج من علماء الأندلس

كانت الحضارة الأندلسية على وعي تام بتقدمها المؤقت وبتاريخها وحتى بمستقبلها، وهو ما جعلها تُطور أدبيات تاريخانية غاية في الأهمية بلغت أوجها مع ابن خلدون، أول فيلسوف وعالم اجتماع في التاريخ.

وكان علماء الأندلس الموسوعيين يدلون بدلوهم في كل التخصصات العلمية والفكرية، كما كان أهل الأندلس منذ بداياتهم على اطلاع بما يحدث في الشرق الإسلامي وبذلوا جهدهم للحصول على المؤلفات المختلفة للعلماء والمتخصصين. ولسوء الحظ لم يلق هذا الفضول العلمي والاهتمام نفس الصدى ونفس المعاملة التي حظي بها نظرائهم المشارقة. وقد ظلت الحضارة الأندلسية مجهولة إلى حد ما في مصر الفاطميين والأيوبيين وحتى المماليك. ويتعمق هذا الجهل الأكثر إذا انتقلنا إلى الغرب حيث البوهيين والسامانيين والغزنويين والسلجوقيين أو الغوريين، حيث كان كلمة الأندلس تبدو بعيدة وغير مفهومة. لكن وبفضل أجيال المستشرقين المختلفة والمستعربين والمتخصصين في الشؤون الإسلامية الأوربيين، سيما الإسبانيين منهم، أمكن معرفة الموروث الأندلسي الغني وإيلاؤه قيمته التي يستحق.

وليس من الصدفة في شيء أن يجهل كثير من المسلمين المشارقة وجود شيء اسمه مسجد قرطة والحمراء في غرناطة أو أنهم لم يطلعوا أبدا عن أعمال ابن حزم وابن رشد وابن العربي من مورسية. وعموما نفس الشيء بالنسبة للمسلمين المغاربيين الذين بالكاد يعرفون القليل عن العجائب الإسلامية في إسطنبول واصفهان وأغرة ويعرفون تقريبا بعض الشيء أو لا شيء إطلاقا عن العلماء المسلمين المتأخرين في المشرق في القرن الثالث عشر.

ولهذا الأمر تفسير أولي مفاده أن الأندلس بحكم ظروفه الجغرافية والسياسية دائما ما نظر إليه على أنه جزيرة بعيدة عن بقية أجزاء دار الإسلام. كما يمكننا الإشارة أيضا إلى أن الإسلام المشرقي عانى من عدد كبير من الاجتياحات (سيما المغولية) ومن الصراعات الداخلية.

مع ذلك هناك عنصر ناقص في الأحجية مفاده أن الحضارة الأندلسية دامت ثمانية قرون لا أقل ولا أكثر (711-1492) وأنه دائما نجد على امتداد تاريخيها مسلمة واحدة: فبالرغم من كل أنواع الصراعات (الحروب الصليبية، وبعد المسافة وغيرها)، كان المسلمون ينتقلون من الغرب إلى الشرق (ابن جبير، ابن بطوطة) وليس في الاتجاه المعاكس. نفضل ترك هذه الظاهرة الغريبة جانبا ولنتوقف قليلا عند نتف من أهم علماء قرطبة في تلك الفترة.

زرياب

كان الأمير القرطبي عبد الرحمن الثاني (788-852) أول من شيد مدرسة موسيقية في الأندلس لدرجة أن موسيقيين كانوا ينافسون نظراءهم في المدنية، حيث اجتمع أحاسنهم (يقال إن سريج أول من استعمل العصا الصغيرة في تاريخ الموسيقى في القرن الثامن).

وفي سنة 822، وصل إلى بلاط قرطبة قادما من بغداد الموسيقي والشاعر الفارسي حسن ابن علي ابن نافع (757-789)، المشهور بزرياب: كان بعضهم يشبهه بالشحرور، "الطائر الأسود المغرد أو الزرياب"؛ بينما رأى آخرون أن ذلك بسبب سواد سحنته. ويعتقد أن زرياب هو من أدخل المنظومة الموسيقية العربية الفارسية إلى مدارس الموسيقى الأندلسية، وهي المنظومة الموسيقية التي كانت تستعمل في بلاط قرطبة إلى جانب المنظومة الإغريقية والفيتاغورية. وكان زرياب في بغداد البعيدة تلميذا محظوظا لاثنين من أهم موسيقي بلاط هارون الرشيد هما إبراهيم الموصلي (توفي سنة 803) وابنه إسحاق الموصلي (ت. 849)، واللذين من فرط غيرتهما من المواهب الخارقة لزرياب والتي كانت تهدد بالتغطية على مواهبهما ضيقا عليه فأجبر على مغادرة العاصمة العباسية.

كان زرياب عالما موسوعيا جمع بين الشعر والأدب والفلك والجغرافيا ومحبا للجمال إضافة إلى أنه كان خبيرا بالطبخ لدرجة أن هناك طبقا قرطبيا قديما يسمى "زريابي"، لكنه عرف أكثر بالموسيقى. ويقال إنه كان يحفظ حروف وموسيقى عشرة آلاف أغنية عن ظهر قلب. وهو مؤسس أكبر أكاديمية موسيقية كما أدخل إلى الأندلس الآلة الموسيقية العربية بامتياز، العود، الذي أضاف إليه حبلا خامسا. كما صنع زرياب آلاته الموسيقية الخاصة وطورها بابتكاراته. ويقول عنه ابن خلدون: "فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف".

ابن فرناس

حوالي سنة 850، كان يسود في مدينة قرطبة الإسلامية مناخ علمي وثقافي من فرط انفتاحه أتاح للإبداع الفردي إمكانية الخروج إلى العلن على غرار ما فعلته قامة مثل قامة عباس ابن فرناس. وقد استطاع هذا الرجل المعروف بفكره الثاقب أن يصنع في بيته أول قبة سماوية في التاريخ العالمي، وهي عبارة عن غرفة رسم على سقفها الأبراج والنجوم والظواهر الجوية. وتوضح الآثار القليلة المتبقية إلى الآن لهذه القبة أن ابن فرناس زودها بآليات تجعل الزائر مندهشا لظهور السحب والرعد والبرق بين جدران الغرفة الأربعة، وهي مؤثرات بصرية كانت لتوقظ غيرة تقنيي هوليود وديزني لاند.

وصنع ابن فرناس أيضا ساعة مائية مزودة بتقنيات متحركة تمكن من معرفة الساعة في الأيام والليالي الغائمة، وأدخل إلى الأندلس تقنية صناعة الزجاج.

لكن يبقى أهم شيء قام به ابن فرناس هو محاولة الطيران باستعمال زي خاص واستطاع من التحليق لمدة من الزمن. وتوفي ابن فرناس سنة 887 وهو من أوائل من حاولوا الطيران وترك رسومات جوية صاغها قبل سبعمائة وخمسين قبل أن يقوم الفنان والمخترع الفلورسنتي ليوناردو دافينشي (1452-1519) بأول محاولة لدراسة الطيران ألفها حوالي سنة 1505.

ابن مسرة

يعتبر محمد بن مسرة (883-931) أول فيلسوف غنوصي في الأندلس. وتنحدر أسرته من المولدين. وبعد دراسته أعمال الفيلسوف اليوناني إيمبيدوكليس (490-430 ق. م.)، وضع في قرطبة أسس مدرسة ستحمل اسمه.

وكان ابن مسرة من أشد المدافعين عن فكرة الوحدانية الإبراهيمية وعن فكرة الإله الواحد وتبنى أفكار المعتزلة. ولم يبق من مؤلفاته الكبيرة إلا "التبصرة" و"كتاب الحروف". وبعد أن جال شمال إفريقيا رفقة تلامذته، استقر ابن مسرة في قرطبة وتفرغ للعلم والزهد.

ابن باجة

اشتغل ابن باجة بالفلسفة والطبيعيات والفلك والطب والموسيقى، وكان شاعرا عارفا بالأمجاد. درس قواعد الفلسفة وتعمق فيها على أسس رياضية طبيعية استعان بها لتفسير فلسفته الماورائية وتوضيحها. قال عنه المقري: "عرف ابن باجة وقت خسوف البدر مستعينا بصناعة التعديل". شرح ابن باجة كثيرا من كتب أرسطوطاليس وصنف كتبا ضاع أكثرها، وبقي ما ترجم منها إلى اللاتينية والعبرية.

ابن زهر

هو طبيب أندلسي من أهل إشبيلية، لم يكن في عصره من يماثله في صناعته، تتلمذ على يد الرازي. اعتمد ابن زهر في عمله على الملاحظة والتجربة والاختبار، فوصل إلى تشخيصات سريرية ذكية للسرطان والأورام الخبيثة. وابتكر طريقة لتغذية من يعجز عن البلع بحقن الطعام عن طريق الشرج أو بشق المريء، كما شخص وعالج التهاب الأذن، وإليه يرجع الفضل في معالجة قمل الجرب.

وابن زهر أول من وصف التهاب غشاء القلب الرطب والناشف وميزه عن أمراض الرئة. وقد صنف كتاب "التيسير" قدم فيه أكثر من عشرين نصيحة تتعلق بحفظ الصحة.

ابن رشد

من كبار الفلاسفة المسلمين، بل يكاد يكون أشهرهم، كيف لا وهو "الشارح الأكبر" لكتب أرسطو. دافع عن الفلسفة وصحح لعلماء وفلاسفة سابقين كابن سينا والفارابي. درس الكلام والفقه والشعر والطب والرياضيات والفلك والفلسفة وبرع في كل منها. كما تولى القضاء، وشغل منصب الطبيب الخاص للخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف في حاضرة مراكش. لكن فيلسوفنا تعرض في آخر أيامه لمحنة جعلت الخليفة المنصور يضيق عليه ويحرق كتبه وينهاه عن الاشتغال بالفلسفة، قبل أن يتراجع عن قراره ويلحقه من جديد ببلاطه، لكن العمر لم يسعف ابن رشد في الإبداع من جديد حيث توفي سنة 1198.

كانت تلك لائحة قصيرة من عدد كبير من العلماء المسلمين ممن أضافوا للبشرية الشيء الكثير في مجالات مختلفة تضيق هذه الأسطر عن تدوينها، وإلا فهناك ابن البيطار وابن حزم وابن زيدون وغيرهم كثير.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى