الدين والحياة

الاجتهاد الفقهي في “الأندلس” في إطار المذهب المالكي

 لم يقتصر التشريع لقطاع النقل البحري على النهل من آراء المذاهب الأخرى، وإنما تعداه إلى الاجتهاد في إطار المذهب المالكي نفسه؛ ومن هذا القبيل اجتهد بعضهم في إيجاد مخارج شرعية لما تواتر حدوثه من تخفيف حمولات السفن، وتخاصم أهلها في قيمة البضائع التالفة من حيث المرجع في تقويمها، وهل يحتسب بناء على موضع اقتنائها وزمانه؛ وفي هذا الإطار تصدى البعض إلى الفتوى في قيمة المتاع المطروح بالقول: هم فيه أسوة بقيمته من موضع حملوه منه، فإن كانوا اشروه من موضع واحد، فثمن ذلك أحب إلي… وإن كان شراؤهم من مواضع شتى… فهذا خلاف الأول، وينظر في هذا كم ثمن ما طرح وما بقي بالموضع الذي حمل منه… كم يكون ثمن ما طرح وما بقي لو اشتري من موضع حمل منه، فيكونون شركاء فيما طرح وفيما بقي؛ واختلاف الأزمنة كالبلدان، مثل ما لو اشترى أحد ما منذ سنة، ويشتري الآخر منذ شهر حسب على أنه اشترى منذ شهر، بيد أن آراء الفقهاء قد تشعبت في هذا الشأن، تبعا لاختلاف ̎قول مالك في المختصر في تقويم ما طرح، “فقال قيمته من موضع الحمل؛ وقال في موضع يحمل إليه؛ وقال في موضع طرح̎ .

ونجد ميلا سافرا لدى قضاة عصر الطوائف إلى تكييف الأحكام المختصة بالمسافر بواسطة النقل البحري المحفوف بالمخاطر، خصوصا من بين أرباب الأموال؛ يتبين هذا المنحى من خلال رأي أبي الوليد الباجي في حكم تصرف راكب البحر في ماله، والذي حصره في الثلث فقط، لما يتوقع من تلفه؛ وكذلك في فتوى ابن رشد في مسألة ̎ المركب الذي سار في قبضة العدو̎ . فلا غرابة في أن يتمنع بعض المرشحين لتولي خطة القضاء بإحدى الإمارات الطائفية عن اشتراط ̎ أن لا يقضي إلا بمذهب مالك̎، متعللا ̎ بأن التقديم على ذلك الشرط لا يجوز̎.

ولعل في استعراض وفرة الإنتاج الفقهي للقرنين الرابع والخامس الهجريين، ما يفصح عن بلوغ التشريع بها إلى أعلى درجات تطوره بالغرب الإسلامي، سواء فيما يتعلق بمحاولة أهل الفتوى تغطية مختلف أوجه المعاملات، أو بالنسبة إلى مواكبة الفقه للمستجدات، ومراعاته للأعراف السائدة حسب المناطق. وهو ما تم التراجع عنه خلال العصور اللاحقة، حيث ساد الجمود والتقليد وسد باب النظر والاجتهاد. تجدنا إذا أمام إحدى المراحل الحاسمة في مسيرة تطور الفقه الإسلامي عموما والمذهب المالكي على وجه الخصوص. .. وغني عن القول إن فقهاء الأندلس وقضاتها كانوا أعرف بأحوال بلدهم وأقدرهم على تدبر مختلف أوجه التشريع في معاملات الناس، من بيوع وأكرية وشركات، نظرا إلى انتماءاتهم الاجتماعية المتنوعة.

المصدر: الدار – مركز "دراسات الأندلس"

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

10 + 12 =

زر الذهاب إلى الأعلى