الدين والحياة

التسامح الديني في الفكر الأشعري

 منتصر الخطيب*

نشر الدكتور عبد القادر بطار، مقالا حول التسامح الديني في الفكر الأشعري، عرض فيه لمجموعة من مواقف الأشاعرة حول موضوع التسامح والتكفير وكيف عالج متكلمو الأشاعرة هذه المواضيع، نقتطف منه بعض الفقرات التي عرضت لهذه الظاهرة وكيفية معالجتها وفق ما يلي:

يقول الدكتور عبد القادر بطار في مقدمة المقال ما نصه: «لعل المجال الأنسب لتوظيف مصطلح التسامح الديني هو عندما يتعلق الأمر بعلاقة المسلم بالآخر الذي يعني على وجه التحديد أصحاب الأديان السماوية، أو أهل الكتاب بلغة القرآن الكريم. من قبيل عدم إكراههم على الدخول في الإسلام لقوله عز وجل: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [سورة البقرة: 256] واحترام اختياراتهم الدينية والعقدية في نطاق التشبع بمبدأ تعايش الأديان، ولأسباب مختلفة وجدنا أنفسنا مضطرين للحديث عن التسامح الديني داخل الدوائر الإسلامية نفسها، وربما داخل المنظومة الفكرية الواحدة التي لها ما يجمعها أكثر مما يفرقها.
 

لقد استعمل البعض مصطلح التسامح الديني وأراد به التقليل من أهمية الدين في حياة الإنسان، وأصبح التسامح بالنسبة لهذا الصنف ضربا من الدعوة إلى الانحلال الخلقي والاجتماعي. وهذا خطأ جسيم ناتج عن فهم ناقص لدور الدين في المجتمع، وحاجة الناس إلى الدين كعنصر أساسي ( لضمان تمساك المجتمع واستقرار نظامه والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه)[1]».
 

ثم انطلق الأستاذ بطار في عرض إشكاليات هذا الموضوع قائلا: «وفي ظل التباس المفاهيم دائما، هناك من ولع بنقل مضامين مصطلحات تنتمي إلى ثقافات أخرى، ويحاول على سبيل التعسف إسقاطها على واقعنا الإسلامي، مثل ما وقع لمصطلح التسامح: الذي يعني عند علماء اللاهوت الصفح عن مخالفة المرء لتعاليم الدين، إلى غير ذلك من المعاني التي يتضمنها هذا المصطلح في بعده الفلسفي والاجتماعي والأخلاقي» [2].
 

وإذا كانت لغتنا العربية الجميلة لم تعرف للفظ التسامح سوى الجود والكرم والسعة، كما تقول: عليك بالحق، فإن في الحق مسمحا، أي متسعا ومندوحة عن الباطل، فإن المشتغلين بالعلوم الشرعية يستعملون ألفاظا أخرى تؤدي ما يؤديه لفظ التسامح في أرقى صورة، مثل لفظ العفو واليسر وسهولة المعاملة والاعتدال والتوسط ورفع الحرج … وهذه الأوصاف هي روح الشريعة الإسلامية وأجل مقاصدها. كما نقرأ في نصوص الكتاب العزيز والسنة النبوية الصحيحة، من ذلك: قوله تعالى: ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [البقرة: 185]، وقوله جل شأنه: ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ) [المائدة: 6]، وقوله سبحانه: ( رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) [البقرة:286].
 

ومن السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: (أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه)؛ أي كان الدين غالبا. وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير – رسول الله صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما)، والمراد من الإثم ما دلت الشريعة على تحريمه. 
 

وفي الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى).. [3] لقد كشفت المصادر التي عنيت بدراسة مقالات الفرق الإسلامية أن كثيرا من تلك المقالات لم تستند إلى أسس علمية واضحة، أو ضوابط منهجية مقبولة .ما يجعل الدارس للتراث الكلامي الإسلامي يصادم بوجود تيارات فكرية تتعالى في فهمها للنصوص الدينية، وتحاول بمقتضى هذا التعالي فرضها على الناس. بل إن هناك من يذهب على سبيل التطرف إلى القول بأن فكره وفهمه للإسلام لا يساويه إلا الإسلام نفسه في قدسيته وتعاليه. ومن هذا المنطلق يمكن أن يصبح فكر هؤلاء في منزلة الإيمان، ومخالفته هو الكفر والفسوق والعصيان… 
 

وتأسيسا على هذا الفهم القاصر للدين عمد هؤلاء إلى الحكم على المخالفين لهم في الرأي بالكفر، والإصرار على إخراجهم من الإسلام بدعوى أنهم كفار… وقد كان من نتائج هذه العقائد الجديدة القديمة نشر الفتنة بين الناس باسم الدين، تلك الفتنة التي حذر منها القرآن الكريم واعتبرها أكبر من القتل: ( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : 217] ..».
ثم أضاف قائلا: « وفي مقابل هذه الأفكار التي لا تعكس الصورة المشرقة للإسلام بحال، وجدنا أئمة فضلاء رفضوا بشكل قاطع تكفير المخالفين لهم في الرأي، لاقتناعهم الشديد بحرمة ذلك شرعا، ولما يترتب عن هذا الوصف القبيح من نتائج وأحكام فقهية خطيرة تمتد إلى حياة الشخص المكَفَّر وماله وعرضه وتصرفاته ومآله بعد وفاته… ومن ثم وضعوا شروطا صارمة لقضية التكفير التي هي من اختصاص الشرع الحكيم نفسه، لا يجوز التصرف فيها بمقتضى الاجتهاد، أي أن معرفة كون الشخص مسلما أو كافرا لا يكون إلا شرعيا.

 

إن هؤلاء الأئمة الفضلاء الذين عظم عليهم تكفير المخالف في الرأي ليسوا سوى أئمة الفكر الأشعري السني التنويري».
 

التكفير عقيدة مرفوضة شرعا وعقلا: وتحت هذا العنوان الفرعي ذكر الأستاذ موضحا: «تعتبر ظاهرة التكفير من أخطر القضايا التي ابتليت بها الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل، ولا تزال تعاني من ويلاتها إلى اليوم، وهي مسألة محسوم فيها بالنسبة لأهل السنة والجماعة الذين عظم عليهم تكفير المسلم بذنب يرتكبه، فأعلنوا في صورة إجماع عقدي عدم تكفير أي أحد من أهل القبلة من المسلمين.
 

وهذا القول العقدي الذي يجسد التسامح الديني في أرقى صوره ينبغي إظهاره للناس وترسيخه في الأذهان ليصبح ثقافة متفشية في المجتمع الإسلامي، ومن التقاليد التي تعكس بحق الصورة الكونية المشرفة للإسلام، وبالتالي محاربة الآراء الشاذة والعقائد الغريبة عن روح الإسلام وسماحته.
 

إن منطق الأشياء يؤكد أن التدين ضرورة لا غنى عنه للبشر، وأن التمسك بشعائر الدين مهما يكن ألزم لصاحبه من التحلل والإباحية مهما تكن وإذا لم يتم ترشيد العقائد الدينية وترسيخها في النفوس على نحو صحيح فلا بد أن يأتي من يستغل هذا الفراغ ليملأه بأفكار قد تكون أشد خطورة من فعل التكفير ذاته، بمقتضى حاجة الإنسان إلى التدين.
ومهما يكن من شيء فإن المشتغل بالدراسات العقدية يلاحظ أن ظاهرة التكفير لم تكن متداولة بين جيل الصحابة أو التابعين أو تابعيهم، لأن جيل الصحابة كما يقول طاش كبرى زاده: (أدركوا زمان الوحي، وشرف صحبة صاحبه، وأزال عنهم نور الصحبة ظلم الشكوك والأوهام)[4].

 

ولأن جيل التابعين وتابعيهم ساروا على النهج الذي كان عليه سلفهم الصالح الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية فقال: ( خَيْرُ اَلْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهٌ)[5]. 
وإنما ظهرت هذه البدعة و تأصلت على يد الخوارج.. الذين كان التكفير بالنسبة إليهم قاعدة مطردة، والإيمان استثناء، فقد أباح هؤلاء قتل كل عاص لله تعالى بناء على أصلهم الفاسد: أن الإيمان يزول عن مرتكبي الذنوب، وهي الفكرة التي سيرفضها البناة من مفكري أهل السنة والجماعة الذين نادوا بفكرة الإيمان الذي لا يزول بذنب دون الكفر، واعتبار كل من أذنب ذنبا دون الكفر مؤمنا وإن فسق بمعصيته».

 

التحذير من فعل التكفير: وانطلق صاحب المقال باحثا في السنة النبوية عن الأحاديث التي تحدثت عن منع المسلمين من سباب أو تكفير بعضهم بعضا فقال: «يعتبر التكفير في السنة النبوية من الأمور الخطيرة التي لا يجوز للمسلم النطق بها أو وصف أحد بها من المسلمين، وسنورد بعض النصوص التي تدل على خطورة التكفير والعقوبة المترتبة عليه. ونسجل في البداية أن معظم الأحاديث التي ورد فيها لفظ التكفير بالنسبة للمسلم لا تحمل على الكفر الحقيقي، وإنما تحمل على التغليظ والتوبيخ، أو هي أفعال تشبه أفعال الكفار أو تجعل المتصف بها في صورة الكفار دون أن تزيل عنه اسم الإيمان.
ونعرض فيما يلي بعض الأحاديث التي تحذر من فعل التكفير ودلالتها في السنة النبوية الصحيحة:

 

•    عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ. وَقِتَالُهُ كُفْرٌ )[6] . فقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم سب المسلم وشتمه والتكلم في عرضه مما يعيبه، ضربا من الفسوق الذي يعني الخروج عن الطاعة. أما قتاله فهو من الكفر. ولما كان علماء الإسلام حريصين على عدم تكفير حتى المكفر فإنهم حملوا هذا الحديث على المقاتل المستحل لذلك.ويستنتج من هذا الحديث ما يلي:
أولا: أن سب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة، وفاعل ذلك فاسق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قتال المسلم على وجه الاستحلال كفر.
ثانيا: أن تكفير المسلم بغير حق يؤول إلى كفر المكفر.

 

•  عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: ( وَيْحَكُمْ ( أَوْ قَالَ وَيْلَكُمْ) لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)[7] .
فهذا الحديث ينهي صراحة عن التكفير لما يترتب عنه من استحالة القتال. وهي أيضا دعوة صريحة إلى الابتعاد عن الكفر والدوام على الإسلام.

 

 • عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أَيُّمَا امرئ قَالَ لأَخِيه: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا. إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ. وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ )[8]. 
وإذا كان من المقرر عند أهل السنة والجماعة قاطبة أن المسلم لا يكفر بالمعاصي فهذا الحديث جاء ليؤكد هذا المبدأ العقدي العام، فإن وصف المسلم بالكفر فضلا عن كونه لا يجوز شرعا فإن إثم التكفير إنما يرجع إلى المكفر نفسه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم " بَاءَ بِهَا " أي رجع عليه الكفر..

 

•  عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إلا الله  وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله)[9].
فظاهر هذا الحديث أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك وهو مؤمن من الموحدين. على أن المراد بالناس في هذا الحديث أهل الأوثان خاصة. ولا معنى لحمل هذا الحديث على المسلمين لكونهم يشهدون بما ورد في الحديث نفسه ».
موقف الإمام أبي الحسن الأشعري من عقيدة التكفير:

 

 ثم عرض الأستاذ بطار- تحت هذا العنوان- لموقف متكلمي الأشاعرة حول هذا الموضوع فقال: 
 

«يقول الإمام الأشعري -رحمه الله- وهو يؤرخ لمقالات مفكري الإسلام بمنهج علمي راق وموضوعي (…اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة ضلل فيها بعضهم بعضا، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم..)[10].
 

أليس هذا القول ترجمة عميقة وتمثلا موضوعيا لروح الإسلام بوصفه رسالة عالمية كلها خير ورحمة تتسع لجميع الاجتهادات التي يكون مقصودها تكريم الإنسان والسمو به نحو حياة دينية آمنة (فلا يكفي ليكون الإنسان مؤمنا حقيقيا أن يؤمن إيمانا عميقا بالحقائق النزلة/المنزلة، وإنما يجب أيضا أن يكرس حياته في خدمة هذه العقيدة، فعليه الاضطلاع بواجبه كمؤمن وأيضا كمواطن، أي عبادة الله وفعل الخير).[11]
 

كما تذكر المصادر التي عنيت بسيرة الإمام الأشعري أن العقيدة التي مات عليها هذا الإمام العظيم الذي اعتبر بحق أحد المجددين على رأس المائة الثالثة هي القول بعدم تكفير أي أحد من أهل القبلة.
 

وفي هذا الصدد يذكر ابن عساكر الدمشقي أن أبا علي زاهر بن أحمد السرخسي قال: ( لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري – رحمه الله- في داري ببغداد دعاني فأتيته فقال: اشهد على أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف في العبارات).[12]
 

وهذا المبدأ الذي مات عليه الإمام الأشعري – رحمه الله- لم يملك الإمام الذهبي وهو يترجم للإمام الأشعري إلا أن يسجله بإعجاب شديد، وهو الحنبلي مذهبا..[13].
 

لقد أعلن الإمام الأشعري كما أعلن الإمام أبو حنيفة من قبل أن الإيمان هو التصديق بالله، وهذا المعنى أفاده الوضع اللغوي الذي يأخذ عند الإمام الأشعري مدلوله من إجماع أهل اللغة. ويستشهد في هذا السياق بقوله تعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [يوسف/17] للتدليل على أن لفظ " الإيمان " يفيد التصديق.
 

ومن وراء هذا التحديد اللغوي مقاصد عقدية تتمثل بالأساس في اعتبار الفاسق من أهل القبلة مؤمنا بإيمانه فاسقا بفسقه وكبيرته، مخالفة للتيار الاعتزالي الذي جعله في منزلة بين المنزلتين، وضدا على التيار الخارجي الذي قضى بتكفيره.
 

وفي هذا الصدد يقول الإمام الأشعري: ( فإن قال قائل: فحدثونا عن الفاسق من أهل القبلة أمؤمن هو؟  قيل له: نعم مؤمن بإيمانه، فاسق بفسقه وكبيرته. 
 

وقد أجمع أهل اللغة أن من كان منه ضرب فهو ضارب، ومن كان منه قتل فهو قاتل، ومن كان منه كفر فهو كافر، ومن كان منه فسق فهو فاسق، ومن كان منه تصديق فهو مصدق، وكذلك من كان فيه إيمان فهو مؤمن…) [14].
 

ويتفرع على هذا الأصل حكمان شرعيان:
 

الأول: أن مرتكب الكبيرة مؤمن وليس بكافر- كما يقول الخوارج.-
الثاني: أنه ليس ثمة منزلة بين الإيمان والكفر إذ (لو كان الفاسق لا مؤمنا ولا كافرا لم يكن منه كفر ولا إيمان، ولكان لا موحدا ولا ملحدا، ولا وليا ولا عدوا، فلما استحال ذلك استحال أن يكون الفاسق لا مؤمنا ولا كافرا كما قالت المعتزلة.

 

وأيضا فإذا كان الفاسق مؤمنا قبل فسقه بتوحيده، فحدوث الزنا بعد التوحيد لا يطال اسم الإيمان الذي لم يفارقه).[15]
 

ويفصح الإمام الأشعري عن موقفه من قضية التكفير بوضوح فيقرر في معرض عرضه لمذهب أهل الحق والسنة فيقول: (وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يستحله، كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون، ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبهها مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا)[16].
 

وهذا الموقف سيتحول عند الإمام الأشعري إلى أصل من أصول عقائد السلف المجمع عليها فيقرر بأن (السلف مجمعون على أن المؤمن بالله تعالى وسائر ما ادعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به لا يخرجه عنه شيء من المعاصي، ولا يحبط إيمانه إلا الكفر، وأن العصاة من أهل القبلة مأمورون بسائر الشرائع غير خارجين عن الإيمان بمعاصيهم)[17] ..
 

إذن الإمام الأشعري في معالجته لمشكلة التكفير فهو ينطلق من مبدأ التوسط والاعتدال، وهذا المنهج الذي سار عليه الإمام يظهر عنده في تقريب جميع قضايا الاعتقاد وليست مشكلة التكفير إلا واحدة منها.
 

وهذا الموقف من قضية التكفير لا يختلف فيه أئمة الفكر الأشعري، الذين أجمعوا على أن جميع أهل القبلة مسلمون.
 

فهذا الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني ( ت 386 هـ) يقرر أن مذهب السلف قائم على عدم تكفير أحد بذنب من أهل القبلة. [18]
 

وقد تفنن شراح "متن الرسالة" في تقريب هذا القول العقدي، فقد فذهب الشيخ زروق في تعليقه على هذا النص: (إلى أن أهل القبلة عبارة عن أهل الصلاة، وقيل اسم لكل مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، صلى أو لم يصل، وما ذكره الشيخ – ابن أبي زيد القيرواني – هو قول جماعة أهل السنة سلفا وخلفا، وقالت المعتزلة من مات غير تائب فهو مخلد في النار، ولا يطلق عليه اسم كافر ولا مؤمن، وإنما يسمى فاسقا)[19] ..
 

وقد وضع الإمام الغزالي في هذا الموضع الخطير قاعدة جليلة تعكس روح الشريعة ومقاصدها العظيمة فيقول: (..والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين للقبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ. والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ اَلنَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إَِلهَ إِلاَّ الله مٌحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا).[20] 
 

كما يضع قاعدة أخرى مستلهمة من روح الشرع الحكيم فيقرر: (أن الخطأ في حسن الظن بالمسلم أسلم من الصواب بالطعن فيه. فلو سكت إنسان مثلا عن لعن إبليس أو لعن أبي جهل أو أبي لهب أو ما شئت من الأشرار طول عمره لم يضره السكوت. ولو هفا هفوة بالطعن في مسلم بما هو برئ عند الله تعالى منه فقد تعرض للهلاك).[21] 
 

وعموما فإن الخطاب الأشعري سواء منه المتقدم أم المتأخر يعتبر قضية تكفير المسلمين من أخطر القضايا وأعظم البلايا التي أصابت جسم الأمة والتي ينبغي تطهير حياة المسلمين منها. وقد عظم على أئمة العقيدة الأشعرية قديما وحديثا تكفير المسلم بذنب يرتكبه كيفما كان طبيعة هذا الذنب كبيرا كان أو صغيرا، بل إن المسلم في ظل العقيدة الأشعرية يظل محتفظا بانتمائه للإسلام، وتثبت له جميع الحقوق التي يتمتع بها بقية المسلمين.

بل إن الإجماع واقع على أن المرتكب لذنب من الذنوب الكبائر أو الممتنع عن أداء بعض الشعائر الدينية وهو يقر بوجوبها فإنه لا يعد كافرا. أما من أنكر ضرورة من ضروريات الإسلام المجمع عليها فلا خلاف بين العلماء في تكفيره، وفي جميع الحالات فإن الجاحد أو الممتنع أمامه فرصة الاستتابة حتى يرجع عن قوله ويعود إلى صوابه».
 

ثم ختم الأستاذ بطار مقاله بالقول: «وقد رأينا كيف أن هؤلاء البناة من مفكري الأشاعرة بدءا بمؤسس المذهب نفسه، ومرورا بجميع بناته في مختلف المراحل ظلوا يمثلون التسامح الديني في أرقى صوره، حريصين كل الحرص على إقامة الدين على دعائم من البناء العقلاني، فكانوا بذلك خيرا على أمتهم ووطنهم..».

*منتصر الخطيب: الرابطة المحمدية للعلماء – مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × 3 =

زر الذهاب إلى الأعلى