تتزايد تكهنات الخبراء والمحللين الرياضيين بالمستقبل الذي ستكون عليه كرة القدم ما بعد مرور أزمة كورونا، خاصة في ما يتعلق بالصفقات الكبرى في موسم التعاقدات والرواتب الجنونية التي يتقاضاها اللاعبون في بعض الدوريات الأوروبية والعربية.
ورغم أنه يبدو من السابق لأوانه التكهّن بمسار محدد للعبة الشعبية وأي طريق ستسلك بعد انجلاء الأزمة، إلا أن ذلك لم يمنع من بروز عدة أطروحات متباينة وأسئلة محلّة يطرحها الخبراء بخصوص الوضعية المستقبلية لكرة القدم.
من بين هذه الأسئلة كيف سيكون وضع كرة القدم ما بعد كورونا؟ وكيف ستؤثر هذه الأزمة الشاملة في هيكلة اللعبة الشعبية عبر العالم؟ وأي تأثير لأزمة وباء كوفيد – 19 على وضعية الرواتب الجنونية للاعبين وعقود النجوم في بورصة التعاقدات؟
هذه الأسئلة وغيرها يتداولها مسؤولو الأندية وكبار المهتمين برياضة كرة القدم في مختلف أنحاء العالم بالتحليل والنقاش، بل إن البعض منهم يتوقع تغييرا شاملا في كرة القدم العالمية بعد انجلاء الأزمة.
وفي هذا الإطار حريّ التذكير بما قاله مؤخرا كارل هاينتس رومينيغه، الرئيس التنفيذي لبايرن ميونخ الألماني، من أن أزمة تفشي فايروس كورونا المستجد ستضع حدا لتضخم “غير صحّي” للرواتب وانتقالات لاعبي كرة القدم.
وقال رومينيغه في تصريح خاص لمجلة النادي “أي أزمة تجلب معها الفرص. بلغت الرواتب ورسوم الانتقالات مبالغ غير صحية منذ زمن. فايروس كورونا والأزمة التي استحدثها سيؤديان إلى إيقاف ‘دائما أكثر، دائما أغلى، دائما أسرع’”. وأضاف النجم السابق للفريق البافاري “العرض والطلب سينظمان سوق الانتقالات ويفرضان توازنا جديدا”.
واعترف السويسري جياني إنفانتينو رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” بأن أزمة كوفيد – 19 قد تقدم فرصة لإعادة هيكلة عالم كرة القدم وفق أسس صلبة. وقال إنفانتينو “لا نعرف متى يمكن للأمور أن تعود إلى طبيعتها (..) لننظر إلى الفرص المتاحة. يمكننا ربما إصلاح كرة القدم العالمية من خلال التراجع خطوة إلى الخلف (..) عدد أقل من الدورات، ربما بعدد أقل من الفرق، لكن بشكل أكثر توازنا”.
مقاربة واقعية
تتباين رؤية البعض في تفسير هذا النوع من التصريحات لمسؤولين كبيرين في لعبة كرة القدم، كلّ من موقعه. فالموقف الأول صادر عن لاعب كبير ورئيس ناد عريق يتكهن بوضع “صحي” جديد للعبة الجماهيرية يكون أقل “تضخما”، فيما ذهب الثاني إلى الاعتراف بأن أزمة وقف النشاط تمثل فرصة مثالية لإعادة هيكلة كرة القدم وفق أسس وقواعد جديدة. ويرى بعض المحللين أن مقاربة الرئيس التنفيذي لبايرن حول تغير مستقبل كرة القدم تلوح أكثر واقعية قياسا بما كشفت عنه هذه الفترة من وقف النشاط الكروي حول العالم وما تركته من تأثيرات على اللاعبين وسوق الانتقالات.
وسرعان ما بدأت هذه المقاربة تتكشف في أول الطريق، إذ تزايد الهوس في معظم الدوريات الكبرى حول المطالب الملحة بخفض رواتب اللاعبين وبدأ التململ يشقّ صفوف الأندية الكبرى مثل برشلونة وبعض الأندية في إيطاليا، فيما يتواصل الجدل بأكثر حدة داخل أندية الدوري الإنجليزي التي لا تزال تبحث عن أرضية محددة للتوافق.
ويفسر ذلك من وجهة نظر المحللين الرياضيين بعدم قدرة هؤلاء اللاعبين الذين يتقاضون رواتب خيالية ووجدوا أنفسهم أمام خيار صعب، إما التقليص في رواتبهم وإما أن يكونوا تحت طائلة الانتقادات، على مسايرة هذا الوضع. فيما يعاني الكثير منهم من أزمة انتقال بسبب العقود الخيالية التي أمضتها بعض الأندية لجلبهم على غرار الفرنسي بول بوغبا لاعب مانشستر يونايتد الإنجليزي أو نيمار لاعب باريس سان جرمان الفرنسي.
وفي إنجلترا رغم المطالب المنادية بضرورة خفض رواتب اللاعبين، لا يزال الموقف ضبابيا بين الأندية والمسؤولين بشأن هذه القضية التي أرّقت الجميع ووصل صداها إلى الدوائر الحكومية.
ومع تمتعهم بعقود تبلغ قيمتها أرقاما خيالية، يتعرض اللاعبون دائما إلى الانتقادات على هذه الرواتب الهائلة، كما انضم مات هانكوك وزير الصحة في المملكة المتحدة إلى المطالبين بضرورة استقطاع اللاعبين جزءا من رواتبهم لصالح جهود مكافحة كورونا.
ولا تتوقف الوضعية حول اللاعبين الناشطين في دوريات كبرى بل إن بعض الدوريات العربية طالبت لاعبيها بضرورة خفض رواتبهم للتكيّف مع هذه الأزمة التي يسببها وقف النشاط.
وفي حين تبدو المسألة معقدة بالنسبة للبعض، إلا أن آخرين يعتبرون أن قرار خفض الرواتب ستكون له ارتدادات عكسية على اللاعبين أنفسهم الذين يتخوفون من السير في هذه الخطوة.
لكن في وضعية كالتي تمر بها معظم الدوريات من المهمّ تضافر جهود الجميع وتحمل قدر أكبر من المسؤولية بحسب إقرار رئيس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم كلارك غريغ الذي حذر من تداعيات مالية كبيرة لأزمة كورونا، وأنها قد تؤدي إلى تدمير الأندية والبطولات الإنجليزية في حال لم يبد المعنيون استعدادا “لتشارك الألم”.
وقال كلارك “نواجه خطر خسارة أندية وبطولات في ظل الانهيار المالي. في ظل هذه المحنة غير المسبوقة، على أصحاب المصالح من لاعبين، مشجعين، أندية، مالكين وإدارات أن يرتقوا إلى مستوى المسؤولية ويتشاركوا الألم من أجل إبقاء اللعبة حيّة”.
ولكن رغم هذه الدعوات الصريحة إلى تحمّل الجميع مسؤولياتهم في ظرف دقيق تمر به كرة القدم الأوروبية، فإن التباين في وجهات النظر بشأن خفض رواتب اللاعبين لا يزال يطغى على جل البطولات في أوروبا وأيضا في معظم الدوريات العربية التي سارت في هذا الاتجاه.
قضية معقدة
يرى محمد العرقوبي، الصحافي الرياضي ومراسل وكالة رويترز في مكتب تونس، أن أغلب الأندية العربية، باستثناء دوريات الخليج العربي، غارقة في أزمات مالية خانقة، معتقدا أن الوضع سيتدهور أكثر إذا ما تواصل وقف النشاط لأطول فترة ممكنة.
وقال العرقوبي في تصريح له، تواجه الأندية صعوبات في خلاص مستحقات اللاعبين وسيزيد الوضع سوءا في الوقت الحالي خاصة بالنسبة إلى أندية ولاعبي الصف الثاني”. وأضاف أن “هذه الوضعية ستتعمق أكثر في غياب عوائد البث التلفزيوني”.
ومن وجهة نظر البعض من المحللين فإن هذه الأزمة التي فرضتها جائحة فايروس كورونا رغم التعقيدات التي تحملها إلا أنه سيكون لها أثر بالغ من أجل تدخل أكبر من الفاعلين فيها، وخصوصا الاتحادات الكبرى (فيفا وويفا) لرسم خارطة جديدة لكرة القدم مستقبلا.
هذه المسألة شديدة التعقيد قياسا بالأثر السلبي الذي ستتركه في نفوس اللاعبين في بعض الأندية الكبرى، على غرار برشلونة الإسباني أو ريال مدريد، والذين لم يتعودوا على فكرة أن تخفض رواتبهم إلى مستويات قياسية. لكنها في المقابل تبدو مرتبطة بوضعية أكثر تعقيدا بالنسبة إلى الموظفين من غير اللاعبين داخل الأندية والذين أثارت القرارات التي اتخذتها بعض أندية الدوري الممتاز بشأنهم ردود فعل قوية.
ويقول الصحافي الرياضي مراد البرهومي في تصريح له، دون شك فإن تداعيات أزمة كورونا ستكون كبيرة وواضحة على جميع المجالات التي تهمّ كرة القدم. اللاعبون أولا لكن الأكيد أيضا أن أثرها السلبي سيطول العديد من الموظفين داخل الأندية”.
ويضيف البرهومي أن “من تداعيات هذه الأزمة أيضا تراجع عائدات الأندية وخاصة في أوروبا. فهذه الفرق تعيش أساسا على عائدات حقوق البث التلفزيوني الضخمة ومع توقف النشاط واستمراره لفترة طويلة سيكون من الصعب على أصحاب حقوق البث التلفزيوني الإيفاء بالتزاماتهم تجاه الاتحادات القارية والمحلية، وفي هذه الحلقة المترابطة سيتهاوى معدل نمو الأندية التي سيصعب عليها التوفيق بين تقوية اقتصادياتها والقيام بحملات انتداب مستمرة”.
وفي مثال صارخ على الجدل الذي خلفه قرار خفض الرواتب في برشلونة الإسباني، ما فجرته هذه المسألة من توتر كبير بين ميسي وإدارة الفريق تجاوز صداه أروقة “كامب نو”. ورغم الأنفة الكبيرة التي أبداها قائد الفريق الكتالوني ليونيل ميسي في تحمل جميع اللاعبين للمسؤولية من أجل دعم الفريق في مواجهة الأزمة التي خلفها وباء كورونا، إلا أنها كشفت امتعاض هؤلاء من القرار الذي اتخذته الإدارة وعرّى تصرفهم عندما يتعلق الأمر بالمسّ من رواتبهم.
وتوجه ميسي بانتقادات لاذعة إلى رئيس إدارة برشلونة جوسيب ماريا بارتوميو، زاعما أن اللاعبين هم أول من طالبوا بخفض رواتبهم ولقي مساندة واسعة من زميله لويس سواريز.
وطرح تعليق المنافسات الرياضية ومنها كرة القدم في الفترة الراهنة علامات استفهام بشأن القدرة على استئناف موسم 2019 – 2020 وطنيا وقاريا، ومسألة عقود اللاعبين التي تنتهي في 30 يونيو في حال اضطرت الأندية إلى استكمال الموسم إلى ما بعد هذا الموعد.
وفي مسعى منه إلى حلحلة الأزمة دعا الاتحاد الدولي لكرة القدم الأندية واللاعبين إلى التوصل إلى اتفاقات بشأن خفض الرواتب. وأوصى فيفا بتمديد عقود اللاعبين إلى ما بعد نهاية يونيو في انتظار نهاية الموسم الكروي مع ما يتطلبه ذلك من تأخير فترة الانتقالات.
وكشف مصدر مقرب من فيفا أن الأخير طلب من الأندية واللاعبين إبرام الاتفاقات بشأن الرواتب، وأوصى بتمديد العقود حتى نهاية الموسم الكروي في حال استئنافه وذلك في مجموعة توجيهات أعدها بالاتفاق مع الاتحادات القارية، تشمل تأجيل فترة الانتقالات أيضا.
تعديل الميزان
رأى فيفا أن جائحة كوفيد – 19 تتسبب في “تأثير كبير” على عائدات الأندية وأن على كرة القدم كما القطاعات الأخرى “إيجاد حلول عادلة ومتوازنة للطرفين”. وأوضح في توجيهاته أنه يحض “الأندية واللاعبين على العمل معا للتوصل إلى اتفاقات وحلول خلال فترة توقف (منافسات) كرة القدم”.
وأوضح فيفا أنه في حال عدم توصل الأطراف إلى اتفاق ورفعت المسألة إليه، فهو سينظر في الأمر بناء على اعتبارات، هي “ما إذا قام النادي بمحاولة جدية من أجل التوصل إلى اتفاق مع اللاعبين، ماهية الوضع الاقتصادي للنادي، تناسبية أي تعديل في عقود اللاعبين، الدخل الصافي للاعبين بعد أي تعديل في العقود، وما إذا تم التعادل مع اللاعبين بالتساوي أم لا”.
ورأى الاتحاد الدولي أنه “من خلال هذه الطريقة، يأمل فيفا أنه سيكون قادرا على إيجاد حلول عادلة ومتوازنة لصالح الطرفين”. وأوضح مصدر مقرب من فيفا أن تنفيذ التوصيات يبقى مرتبطا بالأطراف المعنية والقوانين المحلية والعقود التي تنظم العلاقة في ما بينها، لكنها “مهمة وكانت منتظرة نظرا للسلطة المعنوية القوية التي يتمتع بها” الاتحاد. ورغم التباين الكبير في رواتب اللاعبين، الذي تكشفه سنويا الإحصائيات والشركات المهتمة بالبحث والتدقيق في القيمة السوقية لهؤلاء، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود هوّة كبيرة في رواتب نجوم كرة القدم طبعت لسنوات طويلة معظم الدوريات الأوروبية والعربية أيضا. وأثرت هذه الهوة سلبا على سوق التعاقدات وأصبحت تنذر بأزمة كبيرة في مستوى انتقال اللاعبين بين الأندية، وإلا بماذا يفسّر تراجع الأندية الكبرى عن خوض غمار الميركاتو الصيفي والشتوي في السنوات الأخيرة؟
وفي هذا الإطار يقرّ البرهومي بأنه “من المؤكد أن سوق التعاقدات ستتأثر بشدة خلال السنوات القادمة، إذ أن أغلب الأندية التي تكافح من أجل التعامل مع الوقف القسري لكافة الأنشطة لن يكون بمقدورها المغامرة مستقبلا ماليا والقيام بصفقات كبرى ما يجعل التعاقدات تشهد ركودا كبيرا”.
ويضيف أن “الأزمة لا تتعلق بالأندية الأوروبية فحسب بل ستشمل أيضا الدوريات العربية التي تعاني من مشاكل مالية سيزيد من حدتها هذا الوضع الاستثنائي، وهذا المعطى الخطير قد ينبئ بتهاوي عدة أندية وربما إفلاسها، بما أن البلدان ستلجأ بعد انجلاء الأزمة إلى معالجة الآثار الاقتصادية قبل التفكير في دعم الأندية”.
ويرى العرقوبي أن استمرار وقف النشاط سيؤدي إلى لخبطة في مواعيد البطولات الكبرى، إضافة إلى انتقالات اللاعبين خصوصا الذين تنتهي عقودهم في فترة الانتقالات الصيفية. ويقول إن “استمرار الأزمة ربما سيؤدي إلى إفلاس العديد من الأندية وهناك من أعلن بالفعل إفلاسه بسبب وقف النشاط”.
أزمة شائكة تعيشها كرة القدم العربية والعالمية في ظل أزمة كورونا خصوصا في حال تواصل وقف النشاط لفترة أطول، لكن آفاقها تبدو واعدة في حال تم الاشتغال على كيفية الاستفادة من آثار هذه الأزمة وتطويعها أساسا لردم الهوة في رواتب اللاعبين والقيمة التعاقدية الفلكية لبعض النجوم.