بقلم : يونس التايب
بعد ثلاث فترات متتالية من الحجر الصحي، اشتقنا بكل تأكيد لمعانقة الحرية واستئناف حياتنا الاجتماعية كما في سابق الأيام. و بكل قوة يريد كل منا العودة إلى حياته الطبيعية بعد أن سئمنا، بشكل جماعي و شامل، هذا الحجر الصحي الذي فرضته علينا الجائحة، و تقرر بحكمة وسداد و روح استباقية تعاملت بها الدولة المغربية مع المستجد الفيروسي في بداياته.
لكن، ونحن نحاول التكيف والاستعداد للاستفادة من شروط التخفيف الممنوح، فوجئ الجميع بارتفاع غير متوقع لأرقام الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا، حيث تم الإعلان عن تسجيل 563 كحصيلة رسمية لمساء يوم الأربعاء 24 يونيو، بعد أن كانت حصيلة يوم أمس الثلاثاء 23 يونيو هي 349. وهي أرقام تبقي حيا في الأذهان، أثر الصدمة التي خلفتها حصيلة بؤرة ضيعة “الفريز” بجماعة لالة ميمونة، التي حطمت كل الأرقام الوطنية المسجلة في هذا الباب.
هذه المعطيات تدفعني للقول أنه رغم كل العياء والضجر الذي أصابنا من جراء ضغط عزلة الحجر الصحي الذي حرمنا من رؤية الوالدين و لقاء الأهل و الأصدقاء، و من متعة التحرك بعفوية في الحياة العامة، علينا أن نتعامل مع إجراءات التخفيف التدريجي بهدوء و رزانة، و أن نفهم أن الفيروس لا زال يتجول بيننا بحرية، و أن جولة المواجهة معه لم تنته بعد، و أن ما يسميه خبراء الأوبئة بالموجة الأولى للجائحة لم تتوقف نهائيا. و ما حالات العدوى الجديدة المسجلة في جهات مختلفة من وطننا، لم تكن تقريبا تعرف سابقا حالات عدوى، إلا دليل واضح على أن الوضع، وإن كان تحت السيطرة، من الممكن أن يعود ليصبح سيئا بسرعة كبيرة، لأن كوفيد 19 لم يقرر بعد إنهاء معركته.
ولنا أن نتمعن في ما يجري في الصين منذ عشرة أيام، و عودة حالات الحجر الصارمة في عدة ولايات بعد أن سبق و قالوا لنا أنهم انتصروا على الوباء في شهر أبريل المنصرم. ولننظر إلى مستجدات الفيروس في ألمانيا التي تتعرض فيها، منذ أربعة أيام، الصورة الجميلة عن “شعب منضبط ومنظومة صحية استثنائية” لخدوش حقيقية بعد أن استدعى تصاعد العدوى إلى عزل مقاطعتين كاملتين و فرض الحجر الصحي على 600 ألف شخص. ويبدو أن ما يجري في البرتغال واليونان وفي دول أمريكا اللاتينية، يحيل إلى عودة قوية لوتيرة انتقال العدوى بعد تسجيل بؤر جديدة. ولعل ما شاهدناه من صور في فرنسا، بعد رفع الحجر وفي يوم الاحتفال بالموسيقى، مستفز لتساؤلات عدة حول سلوكات المواطنين الذين اختاروا الازدحام في غياب كلي للكمامات، واستهتار واضح بكل النصائح الوقائية. وما من شك أن نتائج هذه التجاوزات قد تظهر بسرعة كبيرة، قبل نهاية الأسبوع الحالي، أو بداية الأسبوع القادم.
كل هذه المعطيات تبين أن رفع الحجر وعودة الناس للحياة العادية دون الالتزام بالوقاية، يعود معه الفيروس ليضرب بقوة. وأكيد أن القادم مقلق في كل البلدان التي لم يفهم سكانها أن رفع الحجر لا يعني توقف المعركة ضد الجائحة، كما لا يعني التحلل من الالتزام الواجب بالإجراءات الاحترازية (التباعد الجسدي / القناع الواقي/ التعقيم). هكذا هو كوفيد 19، فيروس ذكي ومتأقلم بسرعة، يعيش في صمت و يتحين الفرصة لينتشر مستغلا كل لحظة غفلة أو تهاون.
صحيح أن ارتفاع الأرقام المسجلة خلال السبعة أيام الأخيرة، هو نتيجة أوتوماتيكية يتيحها ارتفاع عدد الاختبارات التي أصبحت بلادنا قادرة على أن تجريها، حيث تجاوزنا سقف 20 ألف اختبار يوميا. هذا شيء مهم و مدعاة للافتخار، لكن، يجب أن يكون واضحا أن ارتفاع الأرقام هو أيضا تسجيل رسمي لواقع على الأرض يفيد بوجود أشخاص مصابين بفيروس كورونا، من بينهم أعداد غير معروفة لا تظهر عليها أية علامات، و ربما قد لا تمرض أبدا و لا تدخل المستشفى، لكنها قادرة بالتأكيد على نقل الفيروس لكل المخالطين، حتى إذا صادف شخصا بمناعة ضعيفة نال منه وربما قتله.
وعليه، إذا كان قرار تخفيف الحجر الصحي بتدرج، أمر جيد فرح به الجميع، لما فيه من تنفيس عن الناس ومن خلق لشروط تحريك الاقتصاد الوطني وعودة الحياة الاجتماعية، إلا أنه على الجميع الانتباه أنه لا أحد من المسؤولين العموميين صرح بأن رفع الحجر هو نهاية المعركة ضد الوباء الفيروسي الشرس، و من فهم أن إجراءات التخفيف الأخيرة تعني الطي النهائي لصفحة كورونا، أو أنها إعلان عن انتهاء المعركة، فقد أساء الفهم و لم يستوعب جيدا ما قيل منذ ثلاثة أشهر في عدد من البرامج و اللايفات والندوات الرقمية، و في حوارات مع المتخصصين.
يوم 18 ماي كتبت مقالا قلت فيه أنه “ليس للنشاط الوبائي من سبب رئيسي ظاهر سوى استمرار الاختلاط بين الناس بدون حماية، وعدم الالتزام بإجراءات الوقاية”، و أن نجاحنا في إتمام آخر فصول مواجهة الجائحة تفترض الحيطة و اليقظة وتغيير سلوكاتنا على المستوى الفردي، في بيوتنا وفي أحيائنا وفي الأسواق، وكذا على المستوى المؤسساتي من خلال “اعتماد نظام التداول على الحضور بالنسبة لموظفي الإدارات والمؤسسات العمومية قصد تخفيف التكدس في المكاتب، و اعتماد أسلوب ‘العمل عن بعد’ في عدة قطاعات ومؤسسات تتيح طبيعة النشاط فيها ذلك، و تكثيف عمليات التعقيم في مرافق العمل، في القطاع العام و الخاص، بشكل جدي.”
و اليوم، و أنا أتابع عودة الارتفاع في الأرقام المسجلة، بداية من حكاية “البؤرة شبه العائلية”، و مرورا بقصة “التوت و العدوى”، وصولا إلى مخلفات الهجرة السرية، و بالتمعن في ما تشهده دول أخرى، ورغم أن أرقام الوفيات المسجلة و نسب الحالات الخطيرة تظل مستقرة، أظن أن علينا أن نعيد دق ناقوس التنبيه، قبل أن نضطر لدق ناقوس الخطر، حتى يتحمل الأفراد و المؤسسات مسؤولياتهم بصرامة لنستمر في محاصرة الوباء حتى النهاية، و لا نترك له الفرصة كي يعود هو لمحاصرتنا من كل جانب.
والمعادلة واضحة في هذا الصدد : إما أن نلتزم بالوقاية ونحصن أنفسنا ونحن واعون بدقة الموضوع وخطورته؛ وإما أن نقبل إمكانية إقرار العودة من جديد لفترة حجر صحي صارم، شامل لكل المدن والجهات أو فقط لبعضها، إذا تبين أن رفع الحجر واكبه فشلنا الجماعي في محاصرة انتشار الفيروس، وعادت حالات العدوى للارتفاع.
ومن هذه المعادلة نستنتج أنه طالما لم يرق الوعي المجتمعي لاحترام الإجراءات الوقائية كاملة، ولم تتكرس تغييرات حقيقية في ثقافة العيش المشترك التي نتقاسمها في الفضاءات الخاصة، و في الفضاء العام وفي فضاءات العمل، فقد تعود فكرة ‘الحجر الصحي’ لتبدو كحل محتمل، رغم أن تكلفته
الاقتصادية والنفسية والاجتماعية مرهقة جدا، باعتباره الحاجز الدفاعي الوحيد الذي يمكن أن نحتمي به، لمدة عشرة إلى خمسة عشر يوما، كلما ضغط الوباء علينا وتجاوز قدرتنا على ضبط انتشاره.
فهل منا من يريد ذلك؟ طبعا لا. هل نحن مستعدون لذلك نفسيا ؟ طبعا لا. ما العمل إذن ؟ منطقيا المفروض هو أن لا ننتشي بانتصار في معركة لم تنته كليا بعد. أما إذا تهاوننا فلننتظر أرقام مصابين بأعداد فوق ما عرفناه منذ 2 مارس إلى اليوم، بشكل سيرهق المنظومة الصحية الوطنية، و يشتت الطاقات المعبئة رغم المجهودات المبذولة، و لن يتحمله وعينا الجماعي، كما أننا لا نريد أي تفريط في مكتسبات ثمينة تحققت لبلادنا و لشعبنا خلال هذه الأزمة الوبائية. لذلك، علينا أن نتعظ ونستفيد من خلاصات التجارب.
أكيد يمكن لأزمة كوفيد 19، أن تشكل فرصة لصناعة مستقبل وطني جديد، نضع له جميعا قيما جديدة و مختلفة، تجعلنا نرقى إلى ما يستحقه وطننا الجميل و إلى ما به نستلذ بهواءه العذب الذي يبهج الحياة بدون أقنعة واقية. فهل نحن مستعدون لنكمل حتى النهاية هذه الملحمة التي نحن في خضمها، لتحل بنا فرحة تامة بمعانقة الحرية وحمايتها من الانحسار بفعل حجر صحي جديد؟