بقلم : يونس التايب
الغضب شعور إنساني طبيعي، تفرزه أسباب معينة بحسب كل حالة وسياق. عندما يفرض علينا ما يضيق على حريتنا، نغضب. و عندما نشعر بظلم أو إهانة، نغضب. و عندما يعتدى علينا، أو على حقوقنا، نغضب. و لا أحد يمكنه أن ينازع في ذلك أو يمنع الانفعال الطبيعي من أن يحدث.
لكن المطلوب هو أن لا يصبح الغضب قاعدة مستمرة في الحياة. كما لا يعقل، إذا ما دخلنا في حالة غضب لسبب من الأسباب، أن نستمر فيها خالدين و لا نحاول الخروج منها، و العودة إلى دائرة شعور إنساني أكثر إيجابية. لذلك، يعتبر عدد من علماء النفس و خبراء التنمية الذاتية أن الغضب طبيعي و مقبول، لكن بشرط أن لا يتجاوز قدرتنا على التحكم فيه وضبط أنفسنا، كي لا يصبح الانفعال مدمرا للذات و معرقلا للتحرك بشكل صائب.
و سواء في الحياة الخاصة أو العامة، يكون الغضب بناء إذا تمخض عنه رد فعل عقلاني موزون و غير مخالف للقانون، وتجلى على إثره رد فعل حريص على العدل مع الذات و عدم ظلم الآخر، خصوصا من نعتبره تسبب في ظلمنا. غير ذلك، هو غضب سلبي لا ينتج فائدة تنفع، و لا يحفز تحركا فاعلا.
لذا، إذا كان مفهوما أن يغضب الناس من قرار تقييد الدخول و الخروج من ثمان مدن، بشكل مفاجئ أربك برامج كثير من الأسر، و خلق بلبلة غير متوقعة، فهل من المعقول أن يستمر صخب التعبير عن الغضب و أسبابه، إلى ما لا نهاية ؟ لا أظن الأمر فيه حكمة، خصوصا و أن مسوغات الغضب فهمها الجميع، حتى من اتخذوا القرار أنفسهم.
المطلوب في اعتقادي هو التفكير في كيف يمكن أن لا يقع مجددا ما وقع، لنخرج بفائدة تعيننا على جعل القادم أفضل و أكثر رصانة و هدوء. ثم بعد ذلك، لا شيء يمنع “الغاضبين” من أن يخرجوا بخلاصات عامة، و يقرروا ما يرونه مناسبا من رأي :
– إما، تفهم دواعي القرارات الحكومية التي أقلقتهم، و فهم أسباب التدابير المتخذة و قبول التبريرات المقدمة بشأنها، واعتبارها قد أتت بناء على تقدير معين لمعطيات ضاغطة، و أنها تمت على كل حال في إطار اختصاصات الحكومة ومسؤولياتها التنفيذية التي يمكن للبرلمان، بعد ذلك، مراقبتها و تتبعها و تقييمها، كما للمواطنين الحق في تتبعها و تقييمها، و تجديد الثقة فيها أو معاقبتها ديمقراطيا.
– و إما الإصرار على أن تلك التدابير غير مبررة، و أن الحكومة لم تكن موفقة في اجتهاداتها و في الإجراءات التي اتخذتها. ثم السير بالتحليل حتى نهايته عبر الإقرار بأن الأحزاب المشكلة للحكومة لا تتوفر على رؤية لتقدم البلاد و تطورها و النهوض بشؤون مواطنيها، و أن الكفاءات الحزبية التي رشحتها للمسؤولية لم تشتغل بمنطق رجال الدولة الأكفاء الذين يتحركون بهاجس الوطن و ليس للانتخابات.
إذا غلب الرأي الأول، فسينتهي الغضب و تعود السكينة و تستمر الحياة. أما إذا ترسخ الرأي الثاني، فسيكون على “الغاضبين” أن يكونوا عمليين و يستعدوا للتصويت في 2021، بشكل يمنحون به أنفسهم وبلدهم فرصة التغيير، من أجل تدبير مختلف للشأن العام يرفع عنهم ما لا يعجبهم حاليا، و يمنحون الثقة لأشخاص آخرين و هيئات أخرى، و يدعموا أسلوبا جديدا على رأس السلطة التنفيذية يساعد في تحقيق الإقلاع الشامل الذي نتطلع إليه، و تنزيل النموذج التنموي الجديد الذي ننتظره.
و أنا أتقاسم هنا هذه القراءة، يحضرني خطاب جلالة الملك في الذكرى الثانية والستين لثورة الملك والشعب، الذي دعا فيه إلى تعبئة وتشجيع المواطنين على المشاركة في العملية الانتخابية، قائلا أن “السلطة التي يتوفر عليها المواطن للحفاظ على مصالحه، وحل بعض مشاكله، ومحاسبة وتغيير المنتخبين، تتمثل في كلمة واحدة من ثلاثة حروف (صوت)”. و أن “التصويت حق و واجب وطني، وأمانة ثقيلة”، و هو “وسيلة بين أيديكم لتغيير طريقة التسيير اليومي لأموركم، أو لتكريس الوضع القائم، جيدا كان أو سيئا”.
كان ذلك خطابا تاريخيا لعاهل البلاد، نحتاج لإعادة قراءته بتمعن و تركيز و استحضار عمق ما فيه من قول سديد، فيه دعوة للمواطنين بأن يحكموا ضمائرهم و يحسنوا الاختيار، و إلا “لن يكون من حقكم غدا، أن تشتكوا من سوء التدبير، أو من ضعف الخدمات التي تقدم لكم”.
لذلك، عوض أن تكون أيامنا كلها غضب و انتقاد و تسفيه، علينا أن نتذكر لحظة الدخول إلى المعزل و الوقوف أمام صندوق الاقتراع، بأن “التصويت لا ينبغي أن يكون لفائدة المرشح الذي يكثر من الكلام، ويرفع صوته أكثر من الآخرين، بشعارات فارغة أو لمن يقدم بعض الدراهم، خلال الفترات الانتخابية، ويبيع الوعود الكاذبة للمواطنين”.
في رأيي، هذا هو الرد المنطقي على كل ما لا يعجب الناس، سواء حاليا أو فيما سبق منذ مدة. و هو السلوك الاستراتيجي الواجب عندما يغضب الناس من تدبير أو سياسة عمومية معينة، أو من مسؤول حكومي لم يرق إلى مستوى الانتظارات. أما الانفعال و اجترار الغضب، و إشاعته بين الناس عبر وسائط التواصل الاجتماعي، و تسفيه كل شيء، ثم يوم الاقتراع التكاسل و الغياب و عدم المشاركة في التصويت، فسيكون عبثا مطلقا و لامسؤولية و استهتار قبيحا. و حينها سيكون على “الغاضبين”، الغائبين عن التصويت و المشاركة الانتخابية، أن يصمتوا و لا ينتقدوا واقعا كان بإمكانهم تغييره و لكنهم تهاونوا و لم يفعلوا.
في انتظار ذلك الموعد، و هو قريب جدا، علينا الآن تحويل الطاقة السلبية إلى مجهود جماعي إيجابي تواصلي جديد، يحمل نداء من القلب لكل مواطنينا كي يطمئنوا رغم الواقع المعقد و الكثير المشاكل و التحديات، و يعززوا الثقة في أنفسهم و في وطنهم. مسؤوليتنا تقتضي أن نساهم لتظل همم المواطنين عالية و لا ينال منهم الإحباط، رغم كل ما يقلقهم. مسؤوليتنا هي أن نشجع الناس ليثبتوا في ساحة المعركة ضد فيروس كورونا، لأنها حرب لا زالت مستمرة و لن تنتهي عما قريب. و مسؤوليتنا الأخطر هي نشر خطاب يعزز ثقة أبناء الشعب في ما أبدته و تبديه مؤسسات دولتنا الوطنية من صلابة في التعاطي مع الجائحة، رغم الارتباك الكبير الذي سقط فيه البعض و ليس الكل، ورغم تذبذب التواصلي الحكومي غير المبرر مع المواطنين.
للأسف، رأينا كيف أفرط البعض في تحميل أبناء شعبنا مسؤولية كل الهفوات والسلوكات التي بسببها عادت العدوى للانتشار بقوة. صحيح، قد يكون شيء من ذلك، في حدود معينة. لكن، ليس من حق أي كان أن ينسى أن غالبية مواطنينا أثبتوا، خلال 80 يوما من الحجر الصحي، قدرتهم على الصمود أمام الجائحة الوبائية، و هم يستحقون أن نتعامل معهم باحترام و تقدير لانخراطهم و مجهوداتهم وصبرهم والتزامهم الوطني.
لذلك، احتراما لأرواح مواطنينا الذين ماتوا بسبب كورونا خلال 24 ساعة الأخيرة، وعددهم أحد عشر شهيدا، و احتراما لأرواح كل ضحايا الجائحة منذ اليوم الأول، علينا أن نعود للتركيز على الإيجابي فينا جميعا، و لا نترك السلبيات تحطم المعنويات و تشيع القلق أكثر مما تستوجبه الحاجة إلى يقظة مجتمعية إيجابية فيها إرادة الإقدام و الصمود و الأمل.
نحن في سفينة واحدة لا يجب أن تغرق بنا. لذلك، علينا الحرص أن لا نفقد تضامننا الوطني على خلفية الهواجس و الحسابات السياسوية و الانتخابية، و لا ننخرط في عملية تشكيك ممنهج في بعضنا البعض. و رغم وجاهة عدد من الملاحظات و الانتقادات، و ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، إلا أن لكل مقام مقال، و من أراد تغيير واقع تدبير الشأن العام و الرقي به للأفضل، عليه أن يصحح سلوكه الفردي، ثم يجتهد بشكل جماعي مع آخرين، من أجل بلورة بدائل حقيقية مضبوطة و قادرة على الصمود أمام إكراهات الواقع، و يشارك بمسؤولية في التغيير عبر القنوات التي يتيحها اختيارنا الاستراتيجي بأن نطور بلادنا بمنطق عقلاني متوجه للمستقبل، وفي الإطار المؤسساتي الذي اختارته الأمة المغربية.
دعونا، إذن، نسير في هذه المعركة حتى النهاية، ونفعل كل ما في وسعنا كي يتحقق الفوز فيها للوطن، وتنتصر الدولة الوطنية لأنها دولة كل مغربية و مغربي و ليست دولة طرف دون الآخر. دعونا نستمر في مسيرة البناء التنموي و الديمقراطي و الوطني وراء ملك البلاد و قائدها، بمنطق يتجاوز العمر الحكومي النسبي و العابر، لينخرط في المدى الاستراتيجي و التاريخي و الحضاري المبني على الشرعيات الراسخة في وجدان أبناء الوطن.