هل بدأت مسيرة تخليق الحياة السياسية بتصفية معاشات البرلمانيين؟
الدار / افتتاحية
لن ينكر أحد أن اتفاق البرلمانيين على تصفية نظام المعاشات الخاص بهم يعتبر مكسبا مهما في مسار تخليق الحياة السياسية. فالكل يعرف أن هذا المعاش كان ريعا سياسيا صريحا استفاد منه أعضاء مجلس النواب ومجلس المستشارين لسنوات وعقود طويلة دون وجه حق، وكان يؤدَّى في الغالب من دعم الميزانية العامة المستخلصة من جيوب دافعي الضرائب. فمساهمات النواب مهما بلغت لم تكن لتؤدي مئات المعاشات التي كانت تخصص للنواب الذين غادروا قبة البرلمان. ولن نبالغ إذا قلنا إن إنهاء هذا الريع تأخر كثيرا عن موعده الحقيقي، وكان من الأولى أن يدرج ضمن حزمة الإصلاحات التي عرفها سياق الربيع العربي. لكن “وقتاش مّا جا الخير ينفع” على حد قول المثل السائر، والأهم هو أن يشكل هذا الإجراء مجرد بداية لتصفية كل أشكال الريع التي تنخر المجتمع السياسي.
فإلغاء معاشات البرلمانيين يجب أن يتلوه بالتبعية إلغاء معاشات الوزراء، التي تعتبر معاشات أكثر دسماً وسمنة مقارنة مع تلك التي يتقاضاها البرلمانيون. بل إن معاشات الوزراء هي الأولى بالإلغاء بالنظر إلى أن أصحابها يتقاضون خلال فترة عملهم رواتب أكبر ويحظون بامتيازات أعلى قيمة. وهذا يعني أنهم يستطيعون مواجهة مصاريف الحياة المهنية ومراكمة بعض المدخرات التي ستسعفهم فيما يستقبل من الأيام بعد مغادرة مسؤولية الوزارة. ولنكن صرحاء، كل وزرائنا، “تبارك الله”، يمتلكون مسارات مهنية خاصة يجنون من ورائها ذهبا، كما أن رصيدهم وخبرتهم التي يراكمونها إبان فترة العمل في الوزارة تخول لهم بسهولة الاندماج في الحياة المهنية وفي عالم المقاولات على الخصوص مباشرة بعد مغادرة مناصبهم. هذا يعني أن الحجة التي ساقها “السي بيليكي” وهو يدافع عن امتيازات البرلمانيين بالقول إن هناك برلمانيين يتسولون ولا يجدون ما يقتاتون به، مردودة عليه، على الأقل فيما يخص الوزراء.
لكن الريع الذي ينبغي القطع معه، لا يتوقف فقط على مسألة المعاشات، هناك منظومة ريعية متكاملة تحيط بوظيفة المسؤولية السياسية في بلادنا، سواء تعلق الأمر بما يحيط بالوزراء، أو باقي المنتخبين في المجالس الجهوية أو الجماعات الترابية. منظومة التعويضات والامتيازات والمنحات التي تقدم لكل هؤلاء يجب مراجعتها تماما من أجل تصحيح مسار الوظيفة السياسية وغاياتها السامية. هذه المراجعة يجب أن تصل إلى تحقيق هدف أساسي وهو استقطاب ذوي النيات الحسنة والمبادئ والحس الوطني للعمل السياسي، واستبعاد الباحثين عن التربح وجني المكاسب المادية والاعتبارية وامتلاك النفوذ. هذه هي الروح التي يجب أن تحكم مشروع تخليق الحياة السياسية. لنأخذ مثالا آخر، ما معنى أن يحيط وزير، يفترض أنه عين لكفاءته، نفسه بجيش عرمرم من المستشارين ومدراء الدواوين الذين يتقاضون رواتب سمينة من أموال دافعي الضرائب مقابل أداء مهمات وخدمات لا أحد يعلم طبيعتها ولا يمكن التحقق من وجودها أصلا؟ الوزير يشرف أصلا على وزارة متخمة بالموظفين والكتاب ورؤساء الأقسام والمصالح والأعوان، وكلهم يتقاضون رواتبهم من أجل أداء كل المهمات التي تسهل عمل الوزير، فما الحاجة إذا إلى تضخيم هذا الجهاز بالمزيد من المستشارين “الأشباح” في الغالب؟
لا يجب إذا أن تكون تصفية معاشات النواب البرلمانيين، مجرد كبش فداء، قدم قربانا واستجابة لضغوطات ونداءات شبكات التواصل الاجتماعي. فالبرلماني يظل في نهاية المطاف، الحلقة الأضعف، ربما، في متاهة الريع السياسي الواسعة. رئيس الحكومة، وأعضاءها والمنتخبون في الجهات والأقاليم والجماعات وعمداء المدن، وغيرهم من ذوي الصفة السياسية، كلهم معنيون اليوم بتقليص امتيازاتهم المبالغ فيها والتي تعود بنا أحيانا إلى القرون الوسطى. يكفي أن نتذكر أن رئيس الحكومة يحصل على تعويض مالي خاص بالأواني الفضية التي يستعملها في استقبال ضيوف البلاد.