الأمن الروحي الإسلامي في زمن الثقافة الرقمية (1/3)
بقلم: خالد حاجي*
يدخل « الأمن الروحي » في عداد المصطلحات والمفاهيم التي، على كثرة رواجها، تظل مبهمة، مستعصية على الأفهام، يزيدها اختلاف سياقات تداولها إبهاما؛ فمن المعلوم أن الحديث عن هذا الأمن في سياق مجتمع ديني يختلف عن الحديث عنه في سياق مجتمع علماني مثلا؛ ومعلوم كذلك أن تصور الأغلبية لأمنها الروحي يختلف عن تصور الأقلية. فالواقع أنه حديث متشعب، موصول بالحديث عن أنواع الأمن الأخرى، مثل الأمن الاستراتيجي، والأمن القومي، والأمن الغذائي، وغير ذلك، فضلا عن اتصاله بمواضيع أخرى من قبيل الدين والجغرافيا والروح والجسد. ولا يستقيم حديث عن الأمن الروحي خصوصا، والأمن عموما، دون الإتيان على ذكر ضده الذي هو الخوف أو الحرب وما يعلق بهما من وسائل الترويع والتدمير.
عند التأمل يبرز لنا تصوران أساسيان بخصوص الأمن الروحي، أحدهما متعلق بالمجتمع، والثاني متعلق بالأفراد أو الأقليات المكونة لهذا المجتمع. وأمام هذين التصورين يغلب الإحساس أنهما متنافران، كلما حضر أحدهما غاب الآخر بالضرورة. بعض المجتمعات تعمد إلى ضرب من ضروب التسييج العقدي لأهم الأفكار والمبادئ والمعتقدات والقوانين والحقوق وذلك لتقوية وشائجها الروحية اللازمة لتحقيق التماسك ودرء أسباب الفرقة والافتتان. ويُتصوَّر أنه بفضل هذا التسييج يكون للمجتمع أمن روحي يقيه آفة الخوف من الغزو الخارجي ويدفع عنه خطر التشظي من الداخل. لكن إذا كان أمن المجتمع الروحي يقتضي تماسكا عقديا، ألا ترى أن هذا التماسك لا يكون إلا على حساب حظوظ الفرد والأقلية في التمتع بحق الاختلاف العقدي؟
تقدم لنا بعض النماذج من التاريخ الإسلامي جملة من التصورات الخاصة بأمن المجتمع الروحي. فقديما عمد بعض الفقهاء في هذا السياق التاريخي إلى اشتراط جملة من الشروط وابتكار جملة من الآليات للحفاظ على بيضة الإسلام وضمان أمن المجتمعات الإسلامية الروحي. حين نتأمل آلية « الإجماع » مثلا، نجد المقصود من ورائها هو ضمان تماسك السلطة العلمية واجتماعها حول أهم المعتقدات التي يقوم عليها المجتمع وشرعية الحكم. وخارج هذا الإجماع يكون الضلال والتيه والخروج عن ثوابت الأمة والزيغ عن طرق السلف الصالح ومفارقة أهل السنة والجماعة وما إلى ذلك من التسميات التي تفيد عدم الاطمئنان الروحي.
ويكفي أن نطل إطلالة قصيرة على التراث الفقهي الإسلامي لندرك أن التسييج العقدي الذي أنتجه الخطاب الفقهي للحفاظ على هذا الأمن لم يقف عند رسم الحدود الرمزية والفكرية والاعتقادية، بل تجاوزها إلى الحدود الجغرافية. ألا ترى أن مفهوما من قبيل « الخوارج » مثلا، هو مفهوم يفيد الخروج المعنوي والحسي في نفس الآن! حيث لم يكن في الخطاب الفقهي آنذاك مجال للتمييز بين الخروج من المعتقد الصحيح والخروج من جغرافية الإسلام؛ يدل على ذلك مجموعة الأحكام الفقهية التي تُجوِّز قتل القائل بما يخالف الإجماع في مواضيع متعددة؛ والقتل، كما لا يخفى، هو ضرب من ضروب الإبعاد والإخراج من الداخل الإسلامي.
صحيح أن معظم الدول الإسلامية في الأزمنة الحديثة، وإن حافظت على العلاقة قائمة بين ضربي التسييج: التسييج العقدي المعنوي، والتسييج الجغرافي الحسي، فهي تسعى، تحت ضغط الواقع الكوني والحرص على الظهور بمظهر المنتسب إلى روح العصر، إلى النأي بأنفسها عن التماهي مع منظومة فقهية ترى في اختلاف الرأي حول « ذات الله وصفاته » أو « ترك الصلاة » موجبا للقتل، أو لإخراج الإنسان من جغرافية الإسلام. غير أن معظمها كذلك يظل محكوما بالانتساب إلى الدين، يتوسل بخطاب ديني يجد فيه—أو كذلك يظن—الضامن لأمن المجتمع الروحي، غالبا ما يكون خطابا يقفز على التفاصيل الفقهية المحرجة، مكتفيا بعموميات الحديث، من قبيل «الوسطية» و«التسامح» و«التعارف» و«العيش المشترك» وما شابه، موحيا في المحصلة بأن السلطة القائمة على الإجماع هي وحدها قمينة بفهم الدين وتأويل أحكامه التأويل الصحيح الذي يضمن الأمن الروحي للجميع ويدفع عن الإسلام شبهة الإرهاب والتطرف.
يمكن أن نجمل فنقول: كان الأمن الروحي، على امتداد التاريخ الإسلامي وما يزال، يتوقف على وجود سلطة علمية دينية تحظى بالإجماع أو تحتكره داخل حيز جغرافي محدد، تخول للسلطان أو السلطة السياسية أن يوظف المرجعية العلمية ليُنفي أو يُخرج أو يُضيّق على كل توجه عقدي أو فكري يرى فيه تهديدا للمجتمع. وبهذا المعنى يمكن القول أن انتساب المجتمع إلى الإسلام وتأسسه عليه جعله يضع الأمن الروحي حاكما على جميع أنواع الأمن الأخرى، وجعل أمن الأغلبية الروحي يعلو على أمن الأقلية، وهذا على خلاف مع المجتمعات العلمانية الحديثة، حيث الانتساب إلى منظومة قيم وقوانين أساسية وضعية يمنح للجميع، أغلبية وأقلية وأفرادا على السواء، حق التنعم بالأمن الروحي. ولعل الفرق بين السياقين، سياق المجتمع الديني كما تجليه الحالة الإسلامية، وسياق المجتمع العلماني، هو أن الأمن الروحي الممنوح للأقلية يكون على شرط الأغلبية الدينية في الحالة الأولى، بينما يكون على شرط القوانين الأساسية الوضعية في الحالة الثانية.
على العموم، كان أمن المجتمعات الإسلامية الروحي وما يزال مشروطا بهوية الأغلبية الدينية وبوحدة معتقدها. فلا سبيل إلى إنكار ما كان للهوية الدينية والمعتقد من دور كبير في مقاومة كل أنواع الغزو الخارجي؛ فبعد تقويض الاستعمار للقوة المرابطة المدافعة عن أرض الإسلام واستباحته لفضائه المادي وتمكنه من دواليب السيطرة عليه، لم تجد المجتمعات الإسلامية من ملاذ تفيئ إليه وصرح تتحصن فيه إلا في الهوية والمعتقد الدينيين باعتبارهما أكثر المقومات نفاذا إلى عمق خصوصيتها، هذه الخصوصية التي كان لها دور مشهود في أمرين اثنين: في تفويت الفرصة على المستعمر المنتصر أن ينعم بالانتصار التام؛ وفي تجنيب المجتمعات الإسلامية نقمة الانهزام التام. ومعنى الانتصار التام، كما جاء على لسان الفيلسوف المفكر الألماني نيتشه، هو أن: « لا ترغب في النصر إطلاقا إذا لم يكن في نيتك سوى تجاوز الخصم بشعرة؛ فالنصر الحقيقي يبعث الفرحة في نفوس المنهزمين ويتوفر على شيء ذي طبيعة ربانية يرفع عنهم الإحساس بالخزي والخجل ».
كل الحروب وكل الهزائم العسكرية وكل الانتكاسات كانت أبعد من أن تضفي على التدخل الخارجي في الفضاء الإسلامي طبيعة ربانية ترفع عن المسلمين الإحساس بالخزي والخجل وتجعلهم يستسلمون؛ بل ظلوا على امتداد القرنين الأخيرين، على أقل تقدير، يتوسلون بمقومات وجودهم الروحية وهم يسترخصون الحياة في مواجهتهم للغزو الخارجي؛ فليس من المبالغة القول بأنه كلما زاد الغزاة من الخارج استعدادا للقتل، زادت الأغلبية المكونة للمجتمعات الإسلامية استعدادا للموت، وهو الأمر الذي ترتب عنه إرساء دعائم موازين قوى لا تسمح لا بالنصر التام ولا بالهزيمة التامة، ذلك أنها تقوم على التوازن بين القوة المادية والقوة الروحية؛ فبينما يخوض أحد الطرفين حرب أجسام وأجساد، يخوض الآخر حرب نفوس وأرواح.
* باحث وكاتب