بقلم : يونس التايب
من الكوارث التي أفرزتها ديناميكية مواقع التواصل الاجتماعي، ظهور بعض “الكائنات” التواصلية التي تجمع بين الجرأة و “الوجه القاصح”، وبين القدرة على الكلام في كل شيء و تقريبا بلا حدود. كائنات تخاطب الناس بما شاءت وكيفما شاءت، وتقوم بمهمة “تأطير” التابعين/المتابعين و التابعات/المتابعات followers، وعموم الرأي العام.
عمليا، صار عندنا “مؤثرات” و”مؤثرون”، يستطيعون إبداء الرأي في إيجابيات وسلبيات أنواع التلقيح ضد كوفيد 19، وفي جيوستراتيجية شمال إفريقيا وملف ترسيم الحدود بين الدول، وفي تضاريس الحياة السياسية والعمل الحزبي، مرورا بأسباب انهيار الليرة اللبنانية، وأركان الدين وفضائل الآداب العامة، وانتهاء بأدوار دود القز في حماية التنوع الطبيعي في غابات الأمازون بالبرازيل والباراغواي.
ولا شك أن هذا الواقع الجديد أفرزته عوامل كثيرة منها، تراجع التأطير السياسي والفكري والثقافي للشباب وللكبار، وتدني مستويات الاهتمام بالفكر والأدب والقراءة، وطغيان نماذج ونخب غير مألوفة جسدت الشعبوية والسياسوية في الفعل الحزبي، وانفجار التطور الرقمي وما صاحبه من تعدد مواقع التواصل الاجتماعي. الشيء الذي أدى إلى حدوث فراغ استغله فاعلون جدد، ليوسعوا من دائرة إشعاع “ثقافة الأكلات السريعة” التي تتلخص في إنتاج ثرثرة واجترار الكلام الفارغ من أي عمق فكري أو رصانة لغوية أو منهجية تحليل معقولة، كما لا أثر فيها لأساسيات فكرية واضحة.
ولأن الفضاء التواصلي يتيح كل الأجناس “الإبداعية” (الشكوى لله!)، رأينا من يفتون في السياسة وفي قضايا الشأن العام وفي أي شيء آخر، بغير علم و لا هدى. وقد تابعنا كيف وصل الغرور والعبث إلى درجة أن تتقاسم معنا “مؤثرة” لتقول أنها “بقيت لوحدها تمارس المعارضة في هذا البلد” ومعها مليون “تابع/متابع” لها على مواقع التواصل الاجتماعي. ولما لم يكن هذا “الإعلام التاريخي” هو الوحيد، بل تبعته، ذات ليلة، تصريح أكثر جرأة وبلغة تهديدية تبعث على السخرية والاشمئزاز، ظننت أن علينا أن نتأكد لنطمئن هل فعلا أكد أحد من هؤلاء “التابعين” مشاركته، الواعية والعلنية، في المهام الكبيرة التي منحتها “المؤثرة” لنفسها.
وأمام هذا الواقع الجديد المطبوع ببؤس ما صار عليه الوعي السياسي والتأطير الأعوج في زمن “المؤثرين”، سبق لي أن قلت أن تحقيق طموحاتنا الوطنية بالنهضة والتقدم والتنمية، لن يكون سهلا إذا استمر نشر الغباء وتسفيه عقول الناس بشتى الوسائل، و تركنا عقول الناس مرتهنة للدجل التواصلي و لثقافة “الكلاشات” التي نشاهد “تحفها” كل حين.
رأيي، أنه لن يكون ممكنا وقف الانحدار والعبث في التعاطي مع الشأن العام وتسفيه الواقع والإنجازات والمكتسبات، سوى من خلال رد الاعتبار للمفكرين وللعقول المغربية العالمة الأصيلة والمتعددة الروافد، وجعل الحكماء من أصحاب الرأي والمبدعين والمثقفين، يتكلمون في مجالات تخصصهم، وينخرطون في النقاش العمومي من قلب المشهد الإعلامي. بذلك، فقط، سيكون ممكنا خلخلة الرداءة التواصلية الحالية، ودفع “الكائنات الغرائبية” التي صنعناها بمنطق “الضغط على زر الإعجاب”، إلى أن تتوارى شيئا فشيئا إلى الظل، خاصة بعد ما شاهدناه في الآونة الأخيرة من “خرحات”.
وتظل الحقيقة هي أن بعض “الكائنات” تظل كركوزية (من الكراكيز!) أكثر منها مؤثرة، كيفما كان ما تحصل عليه من متابعة ومن “لايكات” الإعجاب. وأكيد ستظل عاجزة عن التأثير الهادف والبناء، وغير قادرة على المساهمة في تعزيز وعي جماعي يدعم مسار التقدم والتطور الإيجابي في وطننا. إضافة إلى أنها “كائنات” لن تستطيع المساهمة في حماية المجتمع، بالمفهوم الاستراتيجي للكلمة، خاصة في وقت الأزمات والفتن، لكون صورتها باهتة ولو كثر تابعوها، ويظل كلامها دون مستوى الذكاء الجمعي، غير قادر على أن ينفذ إلى وجدان الناس، عكس خطاب الصدق و الإبداع المتميز، والفكر المتنور و الكلمة الهادفة.
ولأن بلادنا تدخل بقوة في مسار تنموي جديد وتسجل حضورا دوليا نموذجيا متميزا، أظن أننا لم نعد في حاجة إلى رموز التفاهة التواصلية والتسفيه الفكري، ولا لإبداعاتهم البهلوانية التي لا ترقى إلى مستوى حساسية ودقة اللحظة التاريخية، ولا تجسد قيم الثقافة المغربية الأصيلة أو أي قيم أخرى نافعة من ثقافات العالم. لذلك، علينا أن نقف ضد التطبيع المتزايد مع تلك “الكائنات” التي تستيقظ بعد ليل طويل، لتبث “لايفات” جديدة كلما أحست أن في “السوق” ما يستحق “الاجتهاد”. على العكس، من الواجب علينا أن نصحح الخلل التواصلي الحاصل ونحمي ثقافتنا الوطنية و ثقافاتنا الشعبية المتعددة الروافد، ونقوي التحول الرقمي لإعلامنا، ونجعل التكنولوجيا الإعلامية نعمة لا نقمة، وذلك عبر الحرص على جودة المضامين، و تشجيع بروز مؤثرين حقيقيين في حركيتهم ما ينفع الناس وما يستفز ذكائهم وما يدفع بهم إلى عوالم الرقي المعرفي، لا أن يستمر من يعتبرون أن التأطير السياسي والمجتمعي، يقاس بحجم الإساءة لكل من “جات فيه النوبة”، من أشخاص عموميين ومؤسسات، عبر لايفات فيها من التسفيه ورفع الصوت دفاعا عن أي شيء “جابو الله في الطريق”، ما لا يستقيم به شيء يساعد في تنمية الوطن.
أمام ما نرى في هذا الزمن التواصلي، علينا أن لا نتردد في مواجهة التفاهة عبر فعل إشاعة الثقافة الوطنية التي تحافظ على أصالة قيم الأمة المغربية، وتتيح في نفس الوقت حداثة تستند إلى العقل والعلم والمعرفة. ومن المهم جدا أن نفتح هذا الورش، قبل أن تنهي بعض “الكائنات التواصلية” جهودها لتشويه كامل الوعي الجماعي، ونسف مقومات الاعتزاز بما هو جميل في هذه الأرض بما فيه من أشياء تستحق الحياة، وما يحتضنه من قيم كفيلة بتعزيز حظوظنا في الرقي فكرا وممارسة!