يبدو أن التطور المتسارع للفضاء الرقمي أفرز أشكالا جديدة للتعابير العمومية، تبدأ بالتداول الافتراضي لتتطور لفعل عمومي يسائل السياسات العمومية أو يدعو لحماية حق من الحقوق، وهو ما أفرز ” نموذجا ناشئا للحريات العامة ” في طور التشكل.
فما إن تتابع مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، تدرك جيدا أن الثورة الرقمية العابرة للحدود جددت شكل ومضمون المطالبة بالحقوق والحريات، خصوصا فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات، إضافة إلى ترسيخ فكرة العدالة الاجتماعية والمجالية.
هذا النموذج الناشئ للحريات العامة يعتمد بالأساس على الفضاء الرقمي باعتباره أرضية للتداول والتوافق والتعبئة، بشكل أضحت معه هذه الشبكات حاضنة فعلية لحرية الرأي والتعبير والتعبئة للمطالبة بتوفير الخدمات العمومية ومساءلة السياسات العمومية حول العديد من القطاعات سيما ذات الأثر المباشر على المواطنين. كما أن نطاق هذه التعابير يتسع باستمرار ولم يعد محصورا على النخب، بل تعدى ذلك ليشمل العديد من الفئات المجتمعية.
في هذا الصدد، لاحظت الأستاذة الحامعية بجامعة محمد الخامس بالرباط، رقية أشمال، أن قدرة الشباب على الابتكار الدائم وفي مختلف المجالات، “دفعت به للتفكير في بدائل لإسماع صوته، فلم يجد إلا الطريق المباشر؛ الشارع الافتراضي العام” للتعبير عن انشغالاته ومطالبه. وفي هذا الإطار، استحضرت الأكاديمية، في حديث مع وكالة المغرب العربي للأنباء، سياق ظهور الحركات الاجتماعية الجديدة “New Social Movements” أو ما أصبح يعرف اختصارا بـ (NSM)، في البلدان الديمقراطية بالأساس خاصة منذ التسعينيات، وهي حركات تسعى، على عكس الهيئات التقليدية كالأحزاب والنقابات، للتأثير على القرارات لتحقيق مطالب ذات طبيعة غير مادية في معظمها.
وأضافت أن عدد من التحاليل والتفسيرات تواترت بخصوص دور الفضاء الرقمي، كأداة فعالة ساهمت في تحفيز المواطنين والمواطنات على أخذ زمام المبادرة في عملية التغيير، وهناك من يعتبرها كتجسيد واقعي للمواطنة العالمية، لأنها تعمل على ترسيخ فلسفة حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية.
تحديات متشابكة ومتفاوتة في الحدة والأثر يطرحها الفضاء الرقمي
بقدر ما يفتح المجال الرقمي آفاقا رحبة وفرصا في كل المجالات، ومساحات كبيرة للتعبير و”المساءلة”، بقدر ما يحمل العديد من التحديات والمخاطر تجعل من “الصعب” إخضاعها لمقتضيات قانونية سواء للحد من انتشارها أو تقييدها.
فقد رافق هذا الاستعمال المكثف للتكنولوجيا الرقمية بروز معاملات وسلوكيات تشكل تهديدا حقيقيا للحقوق والحريات على غرار تزايد خطاب الكراهية ومظاهر التمييز والتحريض على العنف ومحاولات التضييق والتضليل والتهديد، وإذكاء الكراهية بتعدد روافدها .
في هذا الصدد، أكدت رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، آمنة بوعياش في لقاء نظمته منظمة “الإيسيسكو” مؤخرا حول ” التحدي الرقمي وحقوق الإنسان”، أن مسألة تكييف حرية التعبير مع الثورة التكنولوجية الرقمية وتأطيرها على منصات التواصل الاجتماعي والإنترنت تطرح أسئلة متعددة، خصوصا وأن الإنترنت يخلق تحديات متشابكة من قبيل تعميم الاخبار الزائفة وتفاقم وثيرة آثارها المتشعبة والمعقدة اجتماعيا وأمنيا وسياسيا واقتصاديا.
وأقرت بوعياش أن هذا الأمر يزيد من صعوبة إقرار نوع من التوازن في تدبير مختلف أشكال التعبير العمومي بما يضمن التمتع بالحقوق وممارسة الحريات العامة المكفولة بمقتضى الدستور والاتفاقيات الدولية، ويقي، في ذات الوقت من كل تجاوز ، قد يهدد المكتسبات أو يمس بالحقوق أو الحريات.
وزادت قائلة “نسجل أيضا التحدي المرتبط بالتضليل، ولعل خير مثال حديث على خطورة هذا التحدي، الوباء الإعلامي في سياق جائحة فيروس كورونا، الذي شكل في كثير من الدول تهديدا حقيقيا على حقوق الإنسان “. وينضاف إلى التضليل، تتابع المسؤولة الحقوقية، الحملات التي تستهدف التأثير على سلوكات الأفراد في اختياراتهم وتغييرها، بدون وعي، وهو ما يثير الحاجة في مجتماعاتنا إلى ضرورة تطوير الفكر النقدي لدى الشباب والأجيال الناشئة وتعميم التربية الإعلامية واكتساب قدرات تفكيك الخطابات في أشكالها الجديدة.
بين هامش الفعل العمومي وانزلاقات الاستعمال، أي تدبير لجعل الفضاء الرقمي آمنا وسالما؟
صحيح أن الفضاء الرقمي بات يشكل حاضنا للمجتمع المدني ومعبرا عن تعابير اجتماعية ومدنية مختلفة، لكن في المقابل تطرح الممارسات المسيئة التي أفرزها هذا الاستعمال وأحيانا التوظيف غير الأخلاقي لهذا الفضاء تحديا ورهانا أساسيا، وهو ما يقتضي ايجاد حلول تشريعية وقانونية ناجعة وحامية لحقوق الأفراد دون المس بالحق في استعمال الفضاء الرقمي باعتباره “خدمة عمومية” بحسب آراء حقوقية عديدة.
في هذا الإطار، اعتبر وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، المصطفى الرميد، في اللقاء ذاته، أن التدبير الناجع لممارسة الحقوق والحريات في الفضاء الرقمي پستوجب اليوم الحرص المستمر على التكييف لطرق وأساليب هدا التدبير في إطار من التعاون من مختلف الأطراف المعنية، من أجل تأطير الإعمال السليم لهذه التكنولوجيا، مع الحرص على أن يبقي التمكين من التمتع بالحق هو الأصل وأن يكون التقييد هو الاستثناء.
كما أن تقليص الهوة الرقمية بين الفئات والأشخاص، حسب السيد الرميد، يعد رهانا ضروريا لتعزيز الحق في الولوج لهذه التكنولوجيا والاستفادة من مزاياها، لافتا إلى أن حماية حقوق الإنسان في السياق الرقمي تستوجب انخراطا أقوى لمختلف الفاعلين خاصة القطاع الخاص الذي يعد فاعلا رئيسيا في هذا المجال. فجمع البيانات والمعطيات الشخصية للأفراد من طرف الشركات لأغراض تجارية واستعمال تقنيات المراقبة، يستوجب وضع تشريعات وضمانات كافية لحماية الحق في الخصوصية.
وذكر السيد الرميد بأن المملكة، ووعيا منها بأهمية مواكبة التحول الرقمي السريع، راکمت تجربة هامة في مسار تعزيز إطارها المؤسساتي والتشريعي ذي الصلة، حيث تم سنة 2009، إحداث اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، وإحداث وكالة التنمية الرقمية سنة 2017، أنيطت بها مهمة تنفيذ الاستراتيجية الحكومية في مجال التنمية الرقمية وتشجيع نشر الوسائل الرقمية وتطوير استخدامحها.
کما تم تعزيز الترسانة التشريعية، يبرز المسؤول الحكومي، بالعديد من النصوص القانونية الهامة؛ حيث اعتمدت البلاد في سنة 2018 القانون رقم 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات، والذي يشكل تجسيدا للضمانات الدستورية والالتزامات الدولية ذات الصلة، فضلا عن اعتمادها سنة 2020 القانون رقم 20.05 المتعلق بالأمن السيبراني وتوج هذا المسار بانخراط المملكة في مبادرات دولية واعدة ، على رأسها مبادرة الحكومة المنفتحة.
مخاطر الفضاء الرقمي والمساءلة المجتمعية والقانونية
من وجهة نظر الأكاديمية أشمال فإن التعامل مع الفضاء الرقمي محفوف بالمخاطر، ذلك أنه يمكن أن يعرض الفرد للمساءلة المجتمعية القانونية حيال التعاطي مع وقائع قد يختلط التناول فيها لواقعة عمومية بمقياس ذاتي.
وفي هذه الحالة، تبرز المتحدثة، يمكن للفرد أن يتجاوز الضوابط القانونية في الاستعمالات المرتبطة بهذا الواقع، على النقيض مما قد يتم المطالبة به وهو ما قد يؤدي إلى سوء تعامل مع هذه الوسائل والتطبيقات، إلى الحد الذي يمكن أن يضرب بحقوق فئوية أخرى (توظيف صور الأطفال ، الأشخاص في وضعية هشاشة ، الأشخاص في حالة نزاع مع القانون … ) وغيرها من الحالات ، التي تقف على حدود التماس مع حقوق فئات آخرى ، مما يدخل المستهلك للمادة الرقمية بصفته فاعلا في وضعية التعارض مع ” الرقابة الأمنية ” والقانونية.
وتابعت قائلة إن ” هذا التعامل يجعل من هذا الفضاء المستحدث يتجاوز حدود إمكانات وفرص التعبير عن الرأي، إلى تعريض الآخرين لمخاطر تبعدهم عن دوائر الأمن العام والسلامة “.
وبحسب الباحثة أشمال، وهي فاعلة مدنية وجمعوية، فهذا الوضع الذي يقف عند طرفي النقيض من تأمين حقوق الإنسان يستدعي سعيا نحو التفكير في استراتيجية التعامل مع هذا الواقع الجديد الافتراضي الذي يعد جزءا من الواقع المعاش وليس موازيا له ، تنخرط فيه الدولة عبر مؤسساتها المعنية والمجتمع من خلال وسائطه التي يفترض أن تمتلك بدورها عناصر رؤية قوامها حفظ حقوق الإنسان في ظل التحديات الرقمية الجديدة.
صحيح أن الفضاء الرقمي انتقل من كونه تقنية رقمية للتدوال الافتراضي إلى فضاء للمطالبة بالحقوق والحريات والمساءلة ” الشعبية “، وفتح آفاقا كبيرة يمكن استغلالها بشكل فعال وعقلاني للمساهمة في تحقيق التنمية والنهوض بالمساواة وبالاقتصاد وتوفير الفرص للشباب وتعزيز حقوق الإنسان والنهوض بها، لكنه بالمقابل، يطرح استعماله تحديات متشابكة، خاصة على مستوى المس بحقوق الغير وحقوق المجتمع وتفشي خطاب التمييز والدعوة للكراهية والعنف، مما يستوجب التفكير في آليات قانونية وتشريعية لضبطه وتنظيمه بشكل يراعي حقوق الفرد والمجتمع والمؤسسات.