جيل كيبل مستشرفا أوضاع المنطقة العربية والشرق الأوسط (3/4)
بقلم: منتصر حمادة
كانت روسيا حاضرة أيضاً في مضامين كتاب “النبي والجائحة: من الشرق الأوسط إلى “أجواء الجهادية” (ط 1، 2021)، حيث اعتبر جيل كيبل أن التطورات الاستراتيجية التي تمر منها منطقة الشرق الأوسط، ومنها إعلان الشراكات الاقتصادية وسياسات المحاور، شكلت تحدياً صريحاً للسياسة الروسية التي كانت قائمة على قاعدة “صفر أعداء” في المنطقة، خاصة أنها تحتفظ بعلاقات طيبة مع الإمارات وتركيا وإيران وإسرائيل في آن، انطلاقاً من “اتفاقيات أسطانا” 2017، التي كانت تروم منافسة الحضور الأمريكي الأوربي في المنطقة، وخاصة منافسة في تدبير الأزمة السورية، وهو ما تمّ لها بسبب أخطاء إدارة باراك أوباما من جهة، وتردد القوى الأوربية، بما ساهم في عودة النفوذ الروسي للأضواء عالمياً، بعد تدخله في المشهد السوري، بصرف النظر عن الأحكام الأخلاقية المرتبطة بهذا التدخل. كما توقف المؤلف عند صراعات استراتيجية بين “الدولة العميقة” في كل من واشنطن وروسيا، مستشهداً بما جرى في رئاسيات 2016 الأمريكية، والتي أثير حولها جدل حول التدخل الروسي في التفاعلات الرقمية، بما ساهم في ترجيح كفة الرئيس السابق دونالد ترامب.
بالنسبة للمحور الخاص بالمشروع الصيني، فقد افتتحه المؤلف بدلالات حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن “الفيروس الصيني”، في سياق تفاعلاته الأولى مع تداعيات جائحة كوفيد 19، حيث اعتبر المؤلف أن هذا التفاعل البعيد عن اللغة الدبلوماسية، كان استعارة دقيقة تلخص واقع العلاقات بين العملاقين، كما تشهد على ذلك الصراعات القائمة بينهما في عدة قطاعات، من الأسلحة والتجارة إلى العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي، متوقفاً عند عدة محطات إقليمية، تهم المنطقة العربية، تؤكد صعود أسهم الاستثمار الصيني (الجزائر، اليمن، السودان، جيبوتي..)، حيث الحضور الاقتصادي والمالي الصيني في عدة أوراش كبرى، موازاة مع الحضور نفسه في القارة الإفريقية، مذكراً بأن المشروع الصيني في مطلع الألفية الثالثة، يهم إطلاق “طريق حرير معاصرة”، تمر بالضرورة عبر منطقة الشرق الأوسط، وخاصة عبر الإمارات العربية المتحدة، بحكم تقدمها في المجال التكنولوجي مقارنة مع باقي دول المنطقة.
في المحور الخاص بإيران، كان حدث مقتل الجنرال قاسم سليماني في 3 يناير 2020، محطة مفصلية من وجهة نظر المؤلف، تؤكد التقهقر النسبي الذي يمر منه المشروع الإيراني في المنطقة، خاصة أن الأمر يتعلق برمز عسكري وازن، وقوبل التفاعل معه بالخطابات والشعارات، كما أن الحادث يأتي بعد التطورات التي عرفتها الساحة السورية التي عرفت تورط إيران وحزب الله دفاعاً عن نظام بشار الأسد، كما تأكد ذلك عملياً في الفترة بين 2017 و2018، أي أن هذا المكسب الاستراتيجي الذي حققته إيران في الساحة السورية، قوبل بانتكاسة سنوات قليلة بعد ذلك. وزاد الوضع تعقيداً على الصعيد الداخلي في إيران، تفشي جائحة كوفيد 19، وارتفاع مؤشرات الاحتجاجات الشعبية ضد السلطة الحاكمة، بما يُفسر لجوء طهران إلى التفاعل مع قضايا دولية وإقليمية من أجل التحايل على هذه الأزمات الداخلية.
كانت شخصية الرئيس التركي رجب طيب أوردوغان الأكثر حضوراً في الكتاب، من منظور نقدي، لأن الأمر لا يهم الأداء التركي في منطقة الشرق الأوسط، وإنما يهم الأداء التركي أيضاً في الساحة الفرنسية، سواء مع الحضور الإسلامي الحركي، أو مع المواقف السياسية التركية ضد فرنسا، وخاصة في القضايا ذات الصلة بالإسلام والمسلمين.
يؤاخذ المؤلف على النظام التركي تبني الشعبوية في مواجهة الاتحاد الأوربي، معتبراً أن هذه الشعبوية التي قد تكون مفيدة للظفر بحظوة لدى الرأي العام هناك، لن تصمد أمام الحد الأدنى من التحالف الأوربي، لأن أي عقوبات اقتصادية على تركيا، ستكون لها تداعيات كارثية على الاقتصاد والاجتماع في تركيا، خاصة أن أنقرة تضررت أيضاً بسبب تداعيات الجائحة، ومن ذلك تراجع عائدات السياحة، إضافة إلى معضلة حقوق الإنسان التي تملكها القوى الأوربية كورقة ضغطا، سواء تعلق الأمر بالتعامل مع المعارضين، أو مع الملف الكردي، دون الحديث عن القلاقل التركية في المنطقة العربية، بما يُفسر صدور بلاغ 10 سبتمبر 2020 عن الجامعة العربية، والذي يُندد بتدخل تركيا في سوريا والعراق وليبيا، وقد قرأ المؤلف هذا القرار الذي جاء بمبادرة مصرية، كونه يندرج في سياق مناهضة مصر للنزعة التوسعية التركية في المنطقة.
مصر بين تحدي الديمغرافية والإرهاب
في الشأن المصري، افتتحه المؤلف بإشارة دالة ذات صلة بالمعضلة الديمغرافية، مفادها أن مطلع سنة 2020، تميز بتجاوز ساكنة مصر حاجز 100 مليون نسمة، ومن هنا دلالات العنوان الفرعي الخاص بهذا المحور: “فائض الوزن المصري”، بمعدل يناهز ولادة جديدة كل 15 ثانية، بما يشكل تحديات كبيرة لصناع القرار، على عدة أصعدة، منها الصعيد الزراعي الصرف، بمقتضى تلبية الحاجيات الغذائية للساكنة، فالأحرى باقي الحاجيات، الثقافية والدينية والسياسية وغيرها، وخاصة في ضواحي المدن الكبرى في مصر، مستشهداً بحديث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن تهديد المعطى الديمغرافي، كما جاء في خطاب له ألقاه في سنة 2017، موازاة مع تحدي الإرهاب الذي تعاني منه مصر منذ عقود.
نوّه المؤلف أيضاً بأداء مؤسسة الأزهر الشريف، والتي أصبحت مطالبة بالمساهمة في إحلال السلم الاجتماعي، عبر تبني مقررات دينية صارمة ومنسجمة في آن مع التحولات الإقليمية التي تمر منها المنطقة والعالم، كما توقف عند القلاقل المرتبطة بالتيار الإسلامي الحركي، سواء في التفاعلات البينية، وخاصة بين التيار السلفي والتيار الإخواني، أو في تفاعلات جزء من هذا التيار مع الأقباط، وخاصة بين التيار السلفي والأقباط، مضيفاً في السياق الإخواني، أن التنظيم يعاني من أزمات تنظيمية، نتيجة التطورات التي تمر منها مصر منذ ثورة يونيو 2013، وإن وجدت قيادات التنظيم محاضن في الخارج، وخاصة في تركيا وقطر، إضافة إلى وجود عشرات الآلاف من إخوان مصر في الخارج، ومن مؤشرات تلك الأزمة، أنه لم يتمكن أتباع المشروع في الداخل من الانضمام إلى بعض احتجاجات 20 سبتمبر 2020، والتي بقيت محدودة، رغم الدعاية الإخوانية على الصعيد الإقليمي.
من شمال إفريقيا إلى ضواحي أوربا، هو عنوان المحور الثالث والأخير في الكتاب، وافتتحه جيل كيبل بالتوقف عند تفشي ظاهرة الهجرة السرية القادمة من إفريقيا عبر البوابة الليبية، باعتبارها إحدى نتائج أحداث “الفوضى الخلاقة” في نسختها الليبية، لأنه رغم تواجد الظاهرة في عهد الرئيس السابق معمر القذافي، إلا أنها لم تكن مستفحلة بالصيغة القائمة خلال العقد الأخير، إلى درجة استشهاد المؤلف بتقارير منظمة العفو الدولية [تقرير سبتمبر 2020] والاتحاد الأوربي حول تداعيات هذه الهجرة على أوضاع المهاجرين، سواء تعلق الأمر بضحايا الهجرة في البحر الأبيض المتوسط أو بأحوال المهاجرين في جنوب أوربا، وهي التداعيات التي تعرضت لتعقيدات أكثر مع جائحة كوفيد 19. أحصى المؤلف حوالي 8500 مهاجراً سرياً، تم إيقافهم من طرف القوات الليبية بين يناير وسبتمبر 2020، مما عجل بتدخل الأمم المتحدة للحد من تفشي الظاهرة، بالتنسيق مع الاتحاد الأوربي، مما أسفر عن إطلاق مشروع “عقد الهجرة الأوربي”، والذي قدم في بروكسيل يوم 23 سبتمبر 2020، وتفضي بعض مضامينه إلى التعامل مع إنقاذ المهاجرين السريين الأفارقة على أساس أنه “واجب أخلاقي” بالنسبة لجميع دول جنوب أوربا، بما تطلب من المؤلف الخوض في موضوع تداعيات الهجرة بشكل عام على الدول الأوربية، متوقفاً عند إحدى هذه التداعيات، والمرتبطة بالحركات الإسلامية، سواء تعلق الأمر بجماعة الإخوان المسلمين أو بالحركات الإسلامية القتالية، مذكراً بمعضلة تواجها الدول الأوربية المعنية باستقبال المهاجرين، وهي معضلة الفصل بين نسبة كبيرة من المهاجرين مندمجة ثقافياً في المجتمعات الأوربية، وتساهم في إمداد النخب الأوربية في شتى القطاعات الحيوية (السياسية والاقتصادية والدينية والفنية والرياضية وغيرها)، وبين فئة تبقى أقلية، ولكنها تثير القلاقل، ومن عناوين هذه القلاقل، ما اصطلح عليه الرئيس الفرنسي بـ”الانفصالية الإسلاموية” في خطابه الشهير المؤرخ في 2 أكتوبر 2020، وزاد الوضع تقعيداً هنا، ما دام الأمر مرتبط بقراءة الظاهرة الإسلامية الحركية في أوربا، وخاصة في فرنسا، حيث تقيم أكبر جالية مسلمة هناك بحوالي سبعة ملايين مسلم، أن خطاب ماكرون تلاه حدثان اثنان: مقتل مدرس التاريخ، صامويل باتي، في 16 أكتوبر الموالي، على يد ابن مهاجر من أصول شيشانية، ومقتل ثلاثة مواطنين في كنيسة على يد شاب تونسي يوم 29 من الشهر نفسه.
في قراءته لظاهرة الهجرة، اعتبر المؤلف أنه رغم المؤاخذات والانتقادات التي توجه إلى فرنسا حول العنصرية والإسلاموفوبيا، فإنها لا زالت تحظى بإغراء عند شباب المغرب العربي وشمال إفريقيا، لولا أن هناك عامل مستجد خلال العقدين الأخيرين، ساهم في تأزيم وضعية المهاجرين عنوانه الأزمات الاقتصادية التي يمر منه النموذج التنموي الفرنسي، خاصة أن نسبة الولادات لدى الجاليات المسلمة مرتفعة مقارنة مع النسبة ذاتها لدى الفرنسيين.
بحكم تميز المؤلف بالاشتغال على الظاهرة الإسلامية الحركية، سواء هنا في المنطقة العربية، وهو مؤلف كتاب “النبي والفرعون” [1984]، أو في الساحة الأوربية والفرنسية على الخصوص، فقد كان حدث مقتل أستاذ مادة التاريخ صامويل باتي، فرصة لكي يتوقف مجدداً عند الظاهرة هناك، متهماً أب الشاب المتورط في الجريمة بالتورط في التحريض الذي أفضى إلى مقتل الأستاذ، على هامش نشره شريط فيديو في مواقع التواصل الاجتماعي، موجهاً فيه الدعوة لكي “لا يبقى هذا المنحرف في التربية الوطنية”، وتطور الأمر لاحقاً مع تبني صفحة أحد المساجد هناك لهذا النداء، تأسس في سنة 2013، وهي الصفحة التي تحظى بمتابعة 100 ألف مشترك، ومن نتائج هذه الحملة الرقمية، الإعلان لاحقاً عن مقتل صامويل باتي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث اتضح أن المسؤول الديني الذي عوض أب قاتل الأستاذ، سوف ينشر في صفحته على موقع فيسبوك، النص الكامل لتدوينة فرنسي اعتنق الإسلام مؤخراً، عبر تأثير خطاب جمعية إسلامية تركية، وموالية لمشروع أوردوغان، يتضمن نقداً مباشراً موجهاً ضد قرارات السلطة الفرنسية ذات الصلة بالجالية المسلمة، من قبل قرار 2004 الخاص بمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العمومية، أو قرار 2015 الخاص بتدريس أدبيات “الجندر” في المقررات التعليمية، وقرارات أخرى، نددت بها الجمعية الإسلامية التركية التي أصبحت معقل الإخوان المسلمين في جهة ستراسبورغ، حيث الحضور الكبير للجالية التركية، وحضور أكبر لإسلاميي تركيا مقارنة مع باقي إسلاميي فرنسا، في مشهد كان خارج دائرة التفكير منذ بضع عقود فقط.
وليس صدفة أن يكون لصاحب التدوينة، عدة سوابق في الدعاية للإسلام السياسي من سنوات، حيث سبق له في سنة 2015 أن نشر شريط فيديو بعنوان “عندما كانت الدولة الإسلامية في فرنسا”، حظيت برواج رقمي كبير في عدة منصات، تروم السعي والترويج لمشروع “أسلمة فرنسا” على المدى البعيد، معتبراً نفسه من دعاة الخلافة، ومتعاملاً مع رجب طيب أوردوغان كونه أهم من يحمل “مشعل أمير المؤمنين اليوم في العالم الإسلامي”، وأنه من حقه غزو سوريا وليبيا، مشجعاً الشباب الفرنسي هناك على الهجرة نحو تركيا ومواجهة الإسلاموفوبيا.