جيل كيبل مستشرفا أوضاع المنطقة العربية والشرق الأوسط (4/4)
بقلم: منتصر حمادة
كانت الإسلاموفوبيا حاضرة أيضاً في مضامين كتاب “النبي والجائحة: من الشرق الأوسط إلى “أجواء الجهادية” لجيل كيبل، ما دامت تعرف دخول الإسلاميين على الخط، وهم الذين أسسوا في سنة 2003 “التجمع المناهض للإسلاموفوبيا في فرنسا”، وهو الخيار الذي وظفه مشروع الإسلام السياسي في فرنسا من أجل تغذية خطاب المظلومية، مع عقد مقارنات مع معاداة السامية الخاصة باليهود، حيث أفضت هذه المقارنة إلى الظفر بنسبة من تأييد الرأي العام الفرنسي، على أساس أن معارضة معاداة السامية تقتضي معارضة الإسلاموفوبيا، لولا أن الأمر هنا يهم الخطاب الإسلامي الحركي الذي وظف هذه القضية الخاصة بالمسلمين لصالحه. وقد توقف المؤلف عند عدة وقائع تصب في خانة توظيف الإسلام السياسي لخطاب الإسلاموفوبيا لصالح الإسلاموية، إلى غاية منعطف 19 نوفمبر 2020، عندما أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية عن إمكانية حلّ الجمعية بسبب هذا الخلط والتوظيف، مما أفضى، أسبوعاً بعد ذلك، يوم 27 نوفمبر إلى إعلان إدارة الجمعية عن حلّ نفسها، ونقل عملها إلى الخارج.
ولا يمكن الحدث عن الإسلاموفوبيا وعن “التجمع المناهض للإسلاموفوبيا في فرنسا”، دون الحديث عن الحركات الإسلامية في فرنسا، وهذا المحدد الذي يُميز المؤلف، أي نقده للمشروع الإخواني في فرنسا، يُعتبر أحد أهم أسباب العداء الذي يتعرض له من طرف الأقلام الإخوانية، في المراكز البحثية والمنابر الإعلامية، بما يُفسر غيابه في مُجمل المؤتمرات والندوات التي تشارك فيها بعض الأسماء البحثية الفرنسية المتخصصة في قضايا الإسلام والإسلام، والتي تنظم في المغرب العربي على سبيل المثال، مقابل حضور ما يُصطلح عليهم بـ”يسار الإخوان” أو “اليسار الإسلاموي”، في النسخة الفرنسية، ويتقدمهم الباحث فرانسوا بورغا، الذي شارك مراراً في مؤتمرات إسلامية حركية نظمت في المغرب وتونس.
أحد هؤلاء الإسلاميين الذين توقف عندهم جيل كيبل في الكتاب، هو محمد الصفريوي، من أصل مغربي، عضو “مجلس أئمة فرنسا”، جمعية محسوبة على الإخوان في فرنسا، صاحب علاقات وطيدة مع رموز خطاب المؤامرة، من قبيل الباحث آلان سورال والفكاهي ديودوني، وقد تأسست الجمعية سنة 1992، ويرأسها اليوم الحور مسكين، داعية من أصل تونسي، ومقرب من الإخوان هو الآخر. وقد قاد الصفريوي حملة مناهضة لأستاذ التاريخ سالف الذكر، من أجل “طرد هذا المنحرف، داعياً إلى مظاهرة أمام المؤسسة التعليمية التي يدرس فيها صامويل باتي من أجل تحقيق هذا المطلب، معتبراً أن إهانة التلاميذ المسلمين، سياسة فرنسية مُمنهجة منذ خمس سنوات، وقد اتضح لاحقاً أن الصفريوي هذا مصنف في خانة “ملفات إس”، الخاصة بالمتشددين الإسلاميين في فرنسا.
معركة فرنسية أخلاقية وبحثية ضد الإسلاموية
في سياق تفكيك خطاب الرئيس الفرنسي حول “الانفصالية الإسلاموية” [2 أكتوبر 2020]، خلُص جيل كيبل إلى أن الجمهورية الفرنسية مطالبة بخوض معركة أخلاقية، عنوانها الفصل في عدة مفاهيم مضطربة بالنسبة للرأي العام، تستغلها الإيديولوجيات الإسلامية الحركية، حيث أحصى مجموعة مفاهيم، منها المؤمن والكافر والمشركة والسلفي والمرتد والمنافق والمنحرف.. إلخ، منوهاً بمضامين كتاب الباحث برنارد روجييه، وعنوانه “الأراضي التي احتلتها الإسلاموية، والصادر في فبراير 2020.
وأضاف كييل في المحور الخاص بتقييم خطاب “الانفصالية الإسلاموية” أن هذه الانفصالية تميز مشاريع الإسلام السياسي في فرنسا والعالم الإسلامي، مذكراً مرة أخرى بمشروع أوردوغان في هذا السياق، ومتوقفاً عند بعض الاعتراضات التي صدرت لاحقاً عن أقلام المنطقة العربية بخصوص خطاب الرئيس الفرنسي، والتي صبت في اختزال أسباب التحذير في الحديث عن نزعة الإسلاموفوبيا، معتبراً أن الإسلاميين استغلوا حديث الرئيس الفرنسي عن مصطلح الإسلاموي، من أجل تكريس التماهي بين الإسلام والإسلاموية، وبالتالي صرف النظر عن المقصود بالخطاب، لأنه مؤكد أن خطاب 20 أكتوبر لا يقصد قط المسلمين، وعددهم مليار و600 مليون في العام، وإنما الإسلاميين بالتحديد، ومن هنا تأكيد المؤلف أن الحملة الإسلاموية في فرنسا ضد خطاب الرئيس الفرنسي كانت تروم عدة أهداف، منها حصر تمثلية المسلمين والنطق باسمهم في حركات الإسلام السياسي، ومن هنا تحريف النقاش على الصعيد العالمي الذي كان من نصيب ذلك الخطاب، وعوض الحديث عن “الانفصالية الإسلاموية”، تم الترويج لحديث ماكرون عن “الإرهاب الإسلامي”.
واضح أننا إزاء تحريف استغلته حركات وجماعات الإسلام السياسي في المنطقة على الخصوص، كما لو أننا إزاء إعادة سيناريو 1989 مع رواية “آيات شيطانية”، مع فارقين اثنين على الأقل:
ــ يكمن الفارق الأول في أن المستهدف هذه المرة ليس روائياً بريطانياً من أصل هندي، وإنما رئيس دولة أوربية؛
ــ أما الفرق الثاني، وهذا محدد هام انتبه إليه المؤلف، فيكمن في الفاصل الزمني بين الحدثين (ضجة الرواية في 1989 وضجة الخطاب الرئاسي في 2020)، أي فاصل زمني تميز بتغلغل الإسلاموية وعمل ميداني واختراق مخيال مسلمي أوربا وتحكم في أحياء ضواحي العديد من المدن الأوربية التي تضم جاليات مسلمة، وجدت نفسها محاصرة بجماعات الإسلام السياسي تدعي الحديث باسمها أمام الرأي العام الأوربي وأمام صناع القرار هناك، وليس صدفة أن تقود تركيا هذه الحملة الإسلامية الدولية، في إطار البحث عن زعامة، على غرار مع جرى في واقع كنيسة صوفيا، على هامش تصريحات الرئيس الفرنسي بخصوص حرية صحيفة “شارلي إيبدو” نشر ما تشاء، وإن كان يختلف معهم في خطهم التحريري، لكن مبادئ الجمهورية لا تخول له الاعتراض على مواقف الصحيفة، ووصل الأمر بالرئيس التركي إلى درجة دفاعه عن جمعية إسلامية حركية في فرنسا، متهماً الرئيس الفرنسي بأنه “يبحث عن تصفية حسابات مع الإسلام والمسلمين”، داعياً إياها إلى “مراقبه صحته العقلية”.
من نتائج تزييف الوعي باسم الدين الذي تعرضت له الأقليات المسلمة في فرنسا، عبر بوابة الإسلاموية، أن ذكرى المولد النبوي الشريف التي تحتفي بها ساكنة دول شمال إفريقيا، ومنها دول المغرب العربي، وهي الساكنة التي تنحدر منها نسبة كبيرة من مسلمي فرنسا، تزامنت في عام 2020، وتحديداً يوم 29 أكتوبر، مع اعتداء مهاجر تونسي قدم حديثاً فرنسا، على ثلاثة مصلين في كنيسة بمدين نيس، بينما أجواء الاحتفال عند المسلمين المعنيين بها، لا تخرج عن زيارة العائلة والاحتفاء بالمقام النبوي عبر الأمداح وأمسيات السماع، وما جاور تلك الأجواء الروحانية البعيدة عن الغلو الديني والتطرف الذي يمارس باسم الدين.
الأجواء الجهادية في العالم الرقمي
توقف جيل كيبل مراراً عند معضلة “أجواء الجهادية”، وهو العنوان الفرعي للكتاب، محدداً طبيعة اشتغال العقل الجهادي عند شباب المنطقة وشباب أوربا في الزمن الرقمي على الخصوص، وبيان ذلك كالتالي: يتم بداية نشر تدوينات وتغريدات في المواقع التواصل الاجتماعي، من طرف “مقاولي الغضب”، بتعبير برنارد روجييه، الذي حظي بتنويه المؤلف، وعبر هذه الحملات الرقمية، يمكن الانتقال في مرحلة ثانية نحو العالم المادي، دون أن تكون العلاقة بين العالمين الرقمي والمادي واضحة، وخاصة لدى الشباب والمراهقين، من الذين ينهلون ثقافتهم الدينية من الهواتف الذكية، وهذا ما جرى بالضبط مع آخر ثلاثة اعتداءات صدرت عن إسلاميين في فرنسا، أفضت إلى سقوط ضحايا، تورط في الأول شباب باكستاني، وتورط في الثاني شاب شيشاني، وتورط في الثالث شاب تونسي. ويُلاحظ أن المؤلف اشتغل على أدق تفاصيل هذه الاعتداءات، حيث أورد عدة معطيات ومقارنات تستحق التأمل في مسار ودور الثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي في التأثير على مخيال الشباب هناك، فالأحرى الشباب في المنطقة العربية. كما يُحسبُ للمؤلف استشهاده بنصوص من المدونة التراثية وأخرى من تدوينات المرجعيات الإسلامية الحركية هناك، من باب التوثيق، وسدّ الباب أمام الانتقادات المتوقعة ضده، والصادرة خصوصاً عن الأقلام الإسلاموية، في المنطقة العربية وفي فرنسا، خاصة أن الكتاب تضمن عدة وقفات نقدية صريحة، بالوقائع والأمثلة والإشارات، عند معالم المشروع التركي، في المنطقة العربية وفي فرنسا.
اختتم المؤلف كتابه بعبارات حسرة على تردي الدراسات والأبحاث الفرنسية المتخصصة في الإسلاميات بشكل عام، بما فيها ظاهرة الحركات الإسلامية، منتقداً أيضاً وجهات نظر أسماء بحثية في الساحة، ولا يتعلق الأمر هنا بـ”يسار الإخوان”، من قبيل فرانسوا بورغا سالف الذكر، فهذا تحصيل حاصل، وإنما امتد الأمر إلى نقد بعض مواقف الباحث أوليفيه روا، حيث يؤمن هذا الأخير أن “الباحث الفرنسي في غنى عن معرفة اللغة العربية حتى يقرأ ويفهم ما يجري في ضواحي المدن الفرنسية، حيث توجد نسبة كبيرة من الأقلية المسلمة”، معتبراً أن هذا الخطاب البحثي، والذي تتبناه نخبة في دائرة صناعة القرار، يساهم في إطالة المشاكل الخاصة بالظاهرة الإسلامية الحركية، عوض الانخراط البحثي في حلها، وهو التحذير نفسه الذي جاء في كتاب سابق لجيل كيبل، صدر تحت عنوان “القطيعة” [2016] ، عندما اعتبر حينها أنه سواء تعلق الأمر بالفاعلين السياسيين أو الأمنيين، والإدارة الترابية بشكل عام، فإنهم يملكون المعلومة، ويراقبون الكل، ولكنهم يفتقدون مَلكة التحليل والتفسير، وهذا عطب بنيوي يُعاني منه هؤلاء، معتبراً أنه لا يمكن محاربة الفكر “الجهادي” دون معرفة أسبابه، منتقداً أيضاً التهميش الذي طال أعمال محمد أركون، وغياب الباحثين الفرنسيين الذين يشتغلون على التطورات المجتمعية في الساحة الفرنسية، ذات الصلة بالوجود الإسلامي، ممن شدوا الرحال إما إلى بريطانيا أو الولايات المتحدة. وبالنتيجة، فقدت فرنسا آليات فهم التحولات التي تطال المجتمعات الأوروبية وخاصة في الأحياء الشعبية التي تضم أغلبية مسلمة، فكانت التبعات المباشرة بهذه التحولات، أن أصبح شباب الجالية العربية والأقلية المسلمة، محاصراً بفكي الإسلاموية والخطاب السياسي اليميني.
كما انتقد كيبل صناع القرار في قصر الإليزي على ارتكاب أخطاءً بالجملة بخصوص عدم مخاطبة الرأي العام العربي والإسلامي باللغة العربية، مضيفاً في مقام آخر أن المعضلة الجهادية في فرنسا، ومعها معضلة الانفصالية الإسلاموية، لا تحتمل المزيد من الجهل والحماقة، بل إن هذه المحددات تساهم في تغذيتها.