مذكرات أحمد القصوار.. طفولة ذهبية حافلة بمفاتيح للعلوم الإنسانية
بقلم: منتصر حمادة
خربشات الطفولة: حكاية جيل، هو أحد أعمال الباحث المغربي أحمد القصوار، وصدر منذ أشهر، عن مطبعة أميمة، فاس (جاء في 121 صفحة، من الحجم المتوسط).
والكتاب في الواقع، أصله تدوينات رقمية، كان ينشرها الكاتب في صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، حيث كانت كل تدوينة مخصصة للتوقف عند بعض ذكريات الماضي، وبالتحديد ذكريات مرحلة الطفولة والمراهقة، بمدينة سلا، سواء تعلق الأمر بالذكريات الخاصة بالأسرة والأصدقاء والإقامة والحي والمدينة بشكل عام، بمعنى أننا لا نجد أي أثر يهم مدناً أخرى، وإنما مدين سلا بالتحديد، لولا أن هذه الذكريات لا تهم الكابت وحسب، وهذا أول انطبع سيخرج به من يقرأ العمل، وخاصة القارئ الذي يتراوح عمره بين 30 و50 سنة، ومن هنا حديث العنوان الفرعي للكتاب عن “حكاية جيل”، لأننا إزاء ذكريات تهم جيلاً مغربياً بأكمله.
نخن نذهب إلى أن هذه الكتاب يهم ثلاث فئات من القراء، وبيان ذلك كالتالي:
ــ الفئة الأولى التي تمت الإشارة إليها أعلاه، ومنها كاتب هذه الكلمات، لأن سفر المؤلف مع تلك الذكريات يُحيل على مرحلة من مراحل الطفولة والمراهقة عند الجيل الذي قصده المؤلف (قضينا الجزء الأول من الطفولة في مدينة القنيطرة، بينما كان الجزء الثاني في مدينة سلا، لذلك، جاءت العديد من مضامين الكتاب، كأنها تهم تلك المرحلة).
ــ بالنسبة للفئة الثانية، فنعتقد أنها تهم الباحثين الذين يشتغلون في علوم الأنثروبولوجيا، ونورد هنا رأياً هاماً للباحث السوري محمد الربيعو، لأنه يتقاطع مع المقصود بإدراج هذه الفئة من القراء ضمن خانة المعنيين بقراءة كتاب أحمد القصوار: “هناك اليوم في العالم العربي مشاريع ثقافية عديدة، وبالأخص على مستوى الترجمة، وهي مشاريع غنية بلا شك، وتتيح للقارئ مقاربات جديدة، مع ذلك، كلما طالعت كتب مؤسسة الدراسات الفلسطينية، أشعر بفرادة هذا المشروع. فالقائمون على هذه المؤسسة من أمثال د. سليم تماري، أدركوا أهمية التفاصيل في حياة المجتمعات، وأدركوا أيضاً أن الحديث عن التنوير والماركسية والحداثة أو المقاومة لا يكفي، دون ان تكون لنا ذكريات، ومعطيات، وثقافة، وتواريخ صغيرة، ويوميات. بدون ذلك، كل الأفكار التنويرية تبقى محل اهتمام ضيق، وأحياناً غير مفهومة، وبدون تفاصيل حول مجتمعاتنا نبقى نحمل قضايا الغير وندافع عن تواريخ الآخرين وليس عن تاريخنا بالضرورة. وللأسف البعض يرى في مواضيع مثل الذاكرة وتسجيل تفاصيل الحياة اليومية وتغيراتها على صعيد الملابس والطعام والعادات والأفراح ورجال الدين وأسماء الأحياء والمدن والمحال وغيرها من الأمور، أشياء ثانوية أو فلكلورية (بالمعنى السلبي)، ولا تنفع لفهم ما يجري اليوم في العالم العربي، والإشكالية في هذه الرؤية، أنها تعيد ذات الأخطاء التي فعلها الجيل السابق، والذي غرق في الأدلجة والسياسة الحزبية اليومية، بدلاً من توثيق التفاصيل الصغيرة، وكانت النتيجة ولادة دول بلا ذاكرة”.
ــ أما الفئة الثالثة، فتهم الباحثين المشتغلين في علم الاجتماع، لأن الكتاب يتضمن مادة خام لعقد مقارنات بين أحوال المجتمع بالأمس واليوم، وهي مقارنات كفيلة بتأكيد الحديث عن تحولات يمر منها المجتمع المغربي، على غرار باقي شعوب المنطقة، شرط أن تكون للمعنيين بالاشتغال البحثي، العدة الرصين والنافعة، التي تأخذ مسافة من المرجعيات الإيديولوجية الاختزالية، وخطاب “العمالة الحضارية” بتعبير محمد عابد الجابري.
هذه بعض العناوين الفرعية لتدويات [“خربشالت”] الكتاب: يد أمي، يا أيها الإنسان أنت ما تشاء، كلتة زمور، اليوم الذي خنت فيه كلبي، في بيتنا “ضواية” و”ضربوز”، الهوية والبحث عن المعنى الضائع، الشيخ و”وصلة الخبز”، الصباح هو ضحكة الوجود في وجوهنا البليدة، المسيد بين السي إدريس والسي العربي، لعب الدراري بين رحلتي الشتاء والصيف، العيد الصغير، الطون والحرور، منارات مضيئة في الذاكرة التلفزيونية، لماذا أقرأ؟، اختر طريقك، نجوم تيران الفرشي، رجال ونساء الحومة، با صالح (مول الحانوت)، دوش الحاج بن عمر، حمام العروسة، أيام سينما لوبيرا، نجم الحلقة: لقرع، جدتي مي زينب، مي الباتول، من وجوه سوق تابريكت، تلك الرائحة، غياب ثقافة الاعتراف، ما تبقى لي من الطفولة، وعناوين أخرى، تمتد على حوالي 120 صفحة، في عمل يستحق التنويه، وقدم له الباحث محمد منير الحجوجي، ومنه نقتطف الفقرات التالية الدالة:
ــ “نحن جيل كتبنا ربما في “كل” شيء، إلا عن ذواتنا. أحمد القصوار ينوب هنا عنا. نصه كتابة ذات أكبر من الذات. نص أحمد كتب، في العمق، بأيادي كثيرة جداً، حتى لا أقول بملايين الأصابع، لذلك فهو نص يورطك بالرغم عنك، أينما كنت، وكيفما كانت هويتك. يحيلك إلى كل الأشياء التي عشتها أو لم تعشها، يُعيد بناءك، يجرك إلى إعادة اكتشاف ما اعتقدت أنك لم تعشه، يدفعك إلى عيش كل الأشياء التي اعتقدت أنك عشتها. لا يمكن أن تخرج منه كما دخلته”.
ــ “تخبرنا الخربشات أنه لا يهم أن تتلقى ضربات عائلية وأنت طفل. السؤال الأكبر هو هل كان لك حظ التوفر على “عائلة” أخرى لتقوم بعملية لملمة حطاماتك، وإعادة الانطلاق؟ جيل القصوار كان محظوظا جداً: لقد كانت له ما لا نهاية من منافذ إعادة ترميم الضربات الطفولية: الزنقة، الحومة، ولاد الدرب، الواد، الفضاءات البرية، شركائنا فوق الأرض، كل شيء حسم هنا. ونحن نقرأ الخربشات نفهم – وهذه هي هديته العظيمة لنا- أننا، في العمق، لم نكن، لسنا، لن نكون إلا مجموع لقاءاتنا. خربشات القصوار في جانب منها نص في نقد التصورات الهووية للهوية. التصورات الأوديبة: “نتا ولد باك ومك”. تبين الخربشات أن الأوديب لا يُمكن أن يكون كل شيء”.
ــ “لأحمد قدرة خطيرة على استعادة أشياء مرت قبل أربعين سنة، لا أعرف من أين له هذه القدرة. له ذاكرة بصرية خطيرة. عشت مع أحمد بعضا مما يحكيه، وأعترف أني عاجز عن الحديث مثله. لكل إنسان ذكاءاته، وذكاء أحمد القصوار هو أنه يرفع من ذكائنا، هو أنه يمنح لنا ذكاء يتحول – ونحن نتقدم في الخربشات- منهجاً حقيقياً – بالمعنى الإبستمولوجي الديكارتي لكلمة منهج ــ في بناء المعرفة. خربشات القصوار تغير نظرتنا للأشياء. نبدأ في رؤية الأشياء بشكل آخر، كل الأشياء – حتى تلك التي اعتقدنا أننا “انتهينا” منها ــ تعود إلينا بشكل آخر في لبوس أخرى.
ارتأينا التوقف عند مقتطفات من ثلاث “خربشات”/ تداعيات في هذا العمل، وكانت عناوينها كالتالي: “المسيد: بين السي إدريس والسي العربي”، “في السينما”، “غياب ثقافة الاعتراف”، ونورد بعض المقتطفات من هذه العناوين:
ــ نبأ بالمسيد بين السي ادريس والسي العربي: نقرأ لأحمد القصوار أن “المسيد (أو الكتاب القرآني) ممر إجباري لعدة أجيال نحو المدرسة العمومية. تخطو فيه الخطوات الأولى للخروج من جلباب الأم. ترتبط هذه المرحلة عندي باسمين: السي ادريس وسي العربي. كانت “السي” تشريفا شبه حصري للفقهاء والمعلمين. لا يمكن أن تنطق اسمه من دون “السي”.
السي ادريس: الفقيه الوقور ذو الجلباب فاتح اللون. لون بني فاتح ربما. أتذكر وجهه النحيل وطوله الفاره. كان يبعث على الطمأنينة والسكينة. السي ادريس هو الوجه الأول الذي جعلني أعرف أن هناك مؤسسات أخرى خارج الأسرة الصغيرة أو الكبيرة؛ كان السي العربي فقيهاً صارماً بجلباب داكن اللون. الرمادي أو الأزرق على الأرجح. أتذكر عصاه الطويلة والسبورة السوداء والطباشير. كما أستحضر سبورتي الصغيرة التي كنت أكتب فيها حروفا أو كلمات قليلة. “أكلت” حصتي من غارات عصاه الطويلة بعود حاد ورقيق. السي ادريس والسي العربي رحمة الله عليكما. بفضلكما حفظت بعض الآيات وتعلمت حروفاً وكلمات. هي كلمات سمعتها وكتبتها، وتم بفضلها تحضيري للدخول إلى عالم التعليم العصري في المدرسة العمومية. كلمات ليست كالكلمات.
ــ في موضوع السينما، نقرأ أنها سياسة فردية، بله أنانية، فالمخرج هو سيد الكاميرا وصانع الفرجة، إنه حاكم متسلط لا يعصى له أمر. ففي توقيعه توقع شهادة ميلاد عمل ــ مولود سينسب لتجربته السينمائية… السينما فكر. إنها تفكر بلغتها وطريقتها الفنية، ليس بهدف إنتاج الفكر، وإنما لتمكين المشاهد من أدوات فهم العالم والحياة، وإغناء تجاربه وكيفية تفاعله مع الكون… السينما احتواء للعالم من أجل إعادة صوغه وتشكيله من وجهة نظر الفرد ــ المخرج. السينما درس في تعقيد الحياة وتطهير من الخيبات والأوهام والأفكار الضيقة والقاتلة. السينما توقيع إنساني فردي يكشف إحدى جوانب الشرط الإنساني الجماعي.
ــ نأتي لمعضلة “غياب ثقافة الاعتراف”، وافتتحها المؤلف بالإشارة إلى أن المغرب عرف العشرات من الأسماء (المعروفة أو المجهولة) التي أسدت خدمات جليلة لهذا الوطن وللثقافة العربية بصمت ونكران ذات، في وقت لا يتم فيه تذكر كبارنا إلا وهم على شفى حفرة من الموت أو بعد مواراتهم الثرى. وتتعدد المرات التي يبث فيها التلفزيون المغربي صور فنانين ورياضيين يقاسون الأمرين من أجل العلاج، حتى بثنا أمام تسول تلفزيوني مباشر لا يليق بإنسانية الإنسان العادي. والحال أن من واجب الوطن عليهم أن يعترف بهم وبدورهم في تشكيل الضمير الجماعي المغربي.
ويضف أيضاً أن ضعف إن لم يكن غياب ثقافة الاعتراف هو مؤشر مرضي يبين ضعف المصالحة والتراضي بين مكونات المجتمع وانسداد قنوات الحوار والتواصل بين مكوناته وفئاته السوسيومهنية ــ وما يتطلبه ذلك من اعتراف متبادل ومأسسة للاعتراف بالكفاءة وتقدير الرجال والنساء الذين يقدمون قيمة مضافة حقيقية لتقدم الوطن والأمة والإنسانية جمعاء، مستشهداً ما يصدر في مجالات ثقافية غربية، من قبيل انخراط المجلات الرصينة وأحياناً حتى الترفيهية الموجهة للجمهور العريض، في نشر أعداد خاصة أو استثنائية للاحتفاء بالأسماء السياسية والثقافية والفكرية والأدبية لبلدانها أو المنتمية للبشرية جمعاء. كما تنتج وتبث أفلام وأشرطة تلفزيونية عن شخصيات تاريخية بصمت مرحلتها وكان لها وقع معلوم في ذاكرة الأمة وتاريخ الوطن: إنها ثقافة الاحتفاء بالذاكرة الجماعية الوطنية والكونية، وإعادة العلاقة الفردية مع الأسماء التي بصمت تاريخ وطنها وجنسها البشري. إنها الإنتاج المتجدد للمعنى الذي ساهموا في تشكيله وإعادة قراءة حضورهم السابق والحالي ورسم معالم حضورهم اللاحق.
تاريخ المغرب، يضيف أحمد القصوار، حافل بالأسماء والأعلام التي صنعت مجد البلاد وأضافت لها وللبشرية أيضاً: طارق بن زياد، يوسف بن تاشفين، ابن بطوطة، أحمد المنصور الذهبي، القاضي عياض، ابن رشد ومجموعة من الأسماء، دون الحديث عن أسماء من التاريخ الحديث والمعاصر التي شرفت المغرب والمغاربة: المهدي بنبركة، عبد الرحيم بوعبيد، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، محمد شكري، بوجميع (ناس الغيوان)، العربي الدغمي، عبد السلام عامر.. والأكيد أننا لا نعرف كيف نقدر بعضنا ولا نعرف قيمة ما صنعه ويصنعه مواطنونا، في الوقت الذي نرى بعض الأمم تحتفل بأسماء شبه تافهة.