الإسلاموية وخيانة الموروث الإسلامي بأعين مسلمي أمريكيين (2/2)
بقلم ✍️ منتصر حمادة
لا زلنا مع كتاب “الإسلام والأصولية وخيانة الموروث الإسلامي”، والصادر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ويندرج، كما أشرنا في حلقة أمس، ضمن جبهة الاشتباك الفكري مع أدبيات الحركات الإسلامية “الجهادية”، بل إن بعض ثناياه تخص حتى الحركات الإسلامية المعتدلة، على اعتبار أن ثناياه تتعرض لنقد أداء الحركات الإسلامية. وقد أشرف على تحرير الكتاب، الباحث المفكر سيد حسين نصر. وشاركت فيه مجموعة من الأسماء البحثية المسلمة التي يجمع بينها أنها تقيم في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي ميزة العمل هنا أنه تجميع لأبحاث كتبها باحثون مسلمون غربيون، بعضهم من معتنقي الإسلام، والبعض الآخر، من المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
وكنا قد توقفنا أيضاً عند شخصية مولانا أشرف علي ثانفي، أحد أبرز الشخصيات التي تم تجاهلها، ليس فقط في ذلك الإنتاج الغربي حول واقع الحداثة في المجال الإسلامي العربي، ولكن، حتى في إنتاج ومتابعات الأقلام العربية على الخصوص، وقد تكلف الباحث فؤاد س. نعيم، بتسليط الضوء على هذا المفكر الإصلاحي الذي تجهله أغلب الأقلام البحثية في المنطقة العربية.
يمكن للقضايا التي يثيرها ثانفي أن تكون فائدتها كبيرة ليس بالنسبة للمسلمين فحسب، ولكن بالنسبة لكل الذين يسعون إلى إبطال الآثار الضارة للحداثة والعلمانية. إن مولانا ثانفي يوضح حقيقة عالمنا، وحقيقة وجودنا الإنساني، وهما قضيتان لا يمكن لإيديولوجيات العالم الحديث المتنوعة والدائمة التغيير أن تعالجهما بما فيه الكفاية.
بالنسبة لكل الذين يسعون إلى إبطال الآثار الضارة للحداثة والعلمانية. إن مولانا ثانفي يوضح حقيقة عالمنا، وحقيقة وجودنا الإنساني، وهما قضيتان لا يمكن لإيديولوجيات العالم الحديث المتنوعة والدائمة التغيير أن تعالجهما بما فيه الكفاية.
ويختتم فؤاد س. نعيم مداخلته القيمة بتجديد الانتصار لخيار “الإسلام التقليدي”، ففي الوقت الذي بدأ فيه الغرب نفسه يسأل أسئلة حول إرثه الحداثي، من علمانية، وعقلانية، وإنسانية، وغيرها، وبدأ البحث على الروحانية الحقيقية يزداد بسرعة في الغرب، يستطيع التراث الفكري والروحي الإسلامي أن يقدم أجوبة حاسمة وبعيدة الأثر، فلا الحركات الدينية المتزمتة التي تحصر الحقيقة في نظرة حرفية ضيقة، ولا الحداثة الليبرالية التي تعتبر الحقيقة نسبية تستطيعان القيام بهذه المهمة. لذلك فإنه من الأهمية بما كان أن يتعرف الغرب على صوت الإسلام التقليدي ويتعامل معه، وصوت الإسلام التقليدي لا يزال هو صوت أغلبية المسلمين، من بين العامة والسلطات الدينية معا.. للمفارقة.
نأتي لورقة إبراهيم كالين، والذي اعتبر بداية أن المماثلة بين الإسلام والعنف والقتال من جهة، وبين عدم التسامح والاستبداد من جهة أخرى، أصبحت اليوم من بين تلك الصور القوية التي يتم بواسطتها فهم المجتمعات الإسلامية والحكم عليها من طرف العالم الغربي. وكمثال نموذجي على ما سبق قوله، يمكن سرد مقالة بول جونسون الصادرة في مجلة “الناشيونال ريفيو” رداً على هجمات نيويورك وواشنطن، إذ يجادل جونسون الذي يدعي أنه مرجع في تاريخ الإسلام ـ بالرغم من استحالة اعتباره حتى قارئاً عادياً للإسلام ـ بأن “الإسلام ديانة إمبريالية”، وأن “الإسلام تبقى ديانة آتية من عصور الظلام، وأن “التيار السائد في الإسلام أقرب ما يكون لأشد أشكال الأصولية الإنجيلية تزمتاً”، كما أن “تاريخ الإسلام كان سلسلة من الفتوحات وإعادة الفتوحات”، ليخلُص الكاتب إلى أن لغة جونسون ذات النبرة القتالية تدل بوضوح على مدى مساهمة خطاب الإسلام السياسي والإرهاب في تقديم الإسلام بشكل عدائي وعلى أنه الآخر النقيض للغرب.
بالعودة إلى نقد “التطرف العلماني”، يُحسب للباحث الإقرار بأن الأصولية العلمانية ـ أو التعصب لنظرة الآخرين للعالم في الفكر الحداثي ـ تولد أصولية إسلامية متعصبة كرد فعل، وهي تمزج في واقع الأمر بين عناصر الفكر الديني. وهذه وضعية فكرية ملازمة للإسلامية “الجهادية”، ولتوضيح ذلك، يطالبنا الأنصاري بالتطرق إلى نقطتين مصيريتين:
1- العلاقة بين الموروث العقلي الإسلامي التقليدي والحضارة الإسلامية التي تقصي الإرهاب، من جهة.
2- والعلاقة بين الأصولية العلمانية وأشكال الإسلاموية العنيفة، والتي تجعل من الإرهاب أمراً ممكناً من جهة ثانية.
وفي معرض الرد على منتقدي الحركات الإسلامية الجهادية، ممن يصنفون الاعتداءات الإرهابية في اغرب بأنها حرب على الحداثة، وعلى نمط العيش الغربي، يستشهد الأنصاري بالذي صدر عن جون فول محرر بحث تحت عنوان “ابن لادن ومنطق القوة”، والذي اعتبر أن “مجرد إنتاج شريط فيديو معاصر بطريقة جيدة يدحض الادعاء الذي يقول بأن الحركة التي يمثلها هي حركة ضد الحداثة” وفي الواقع فإن التنظيمات “الجهادية” هي نتاج “الحداثة المعولمة” وتستعمل تكنولوجيا التواصل الحديثة، والشبكات العالمية.
وعلى غرار العديد من المداخلات التي جاءت في “الإسلام والأصولية وخيانة الموروث الإسلامي”، ينخرط الأنصاري في نقد الوهابية، معتبراً أولاً أن الفكر الأصولي الوهابي يقدم مقاربة مقتضبة نسبيا للإسلام، بالإضافة إلى كونها تميل إلى الخلط المغلوط والخطير بين الأفكار الإسلامية والعلمانية عبر الاجتهاد، لأن الفكر الوهابي فكر صارم في عدم تشجيع دراسات الموروث الفكري الإسلامي. ولا تنقصنا الأمثلة التي يمكن أن تعزز هذا النقد، بالصيغة التي يتبناها الباحث، وقد اعتبر الأنصاري، أنه ليس من قبيل الصدف أن يكون ابن لادن قد ترعرع في مثل هذه البيئة، خلقت الظروف الفكرية الضرورية لاستراتيجية ابن لادن التي تنبني على المعاملة بالمثل، دون أن يعني ذلك أن الفكر الوهابي يقلب بالضرورة القيم الإسلامية، أو أن الوهابي المثالي هو إنسان متشدد ينشغل بالأشكال المغلوطة للجهاد، كما فعل ابن لادن، وكما روج لذلك المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما.
إن الكثير من الوهابيين هم مسلمون ورعون، والتقييم هذه المرة للأنصاري، كما أن اقتحام الفكر العلماني للعالم الإسلامي لا يغفر للجهاديين المسؤولية الأخلاقية لمناصرة الإرهاب
إن الكثير من الوهابيين هم مسلمون ورعون، والتقييم هذه المرة للأنصاري، كما أن اقتحام الفكر العلماني للعالم الإسلامي لا يغفر للجهاديين المسؤولية الأخلاقية لمناصرة الإرهاب، لولا أن خطر قلب القيم الإسلامية في الفكر الوهابي مرتفع لكون الفلسفة الدنيوية/العلمانية غالباً ما تدخل إلى مجتمع كهذا عبر “البوابة الخلفية”، مع العلوم الطبيعية الدنيوية.
كان ت. ج. ونتر أكثر جرأة في نقد مجمل التيارات الإسلامية الحركية، مطالباً من رموز “الصحوة الإسلامية”، إذا كانوا يطمحون فعلاً لازدهار هذه الصحوة، بضرورة الاعتراف بأنها ـ “الصحوة الإسلامية” ـ في أزمة حقيقية، وأن مواردها الفكرية قد أثبتت عدم كفاءتها للإيفاء بالاحتياجات المعاصرة، وترتكز الإجابة على هذا الأمر الارتكاز على عملية من المحاسبة الجماعية، وعلى مساءلة النفس، التي تسمو فوق إسلام الأدلجة المحدث من طرف دعاة إحياء الدين. أما أهم الملاحظات النقدية للباحث، ونادراً ما تنبه المتتبعون لهذه الرؤية النقدية الثاقبة، فتكمن في البحث عن أسباب سرعة زوال النشاط المتطرف، وهي الأسباب التي، برأي ت. ج. ونتر، وكذا مضمونه ـ أي مضمون النشاط المتطرف ـ ينبغي أن تبعث على الريبة. فالإيمان الإسلامي الأصيل، بكل بساطة، لا يُفترَض فيه أن يكون عابراً أو سريع الزوال، لأن القرآن أكد على ثبات جذور الإيمان. والخلاصة الحتمية هنا، أن التطرف السلفي، من منظور الشجرتين اللتين صَوَّرهما القرآن يُشبه أكثر الشجرة التي لا قرار لها، كما صورها لنا القرآن، ويتحدث عن مدلول الآيتين القرآنيتين 24 و26 من سورة إبراهيم، 24 و26: “ألم تر كيف ضرب الله مثلاً ملكة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار”.