إسلاميات…. تحولات الطرق الصوفية في المغرب
بقلم ✍️ منتصر حمادة
كانت أحداث “الفوضى الخلاقة” التي مرت منها بعض دول المنطقة منذ عقد، والتي اصطلح عليها بأحداث “الربيع العربي”، منعطفاً كشف عن عدة تحولات تمر منها بعض أنماط التديّن في الساحة، ومنها طرق باب “الما بعديات”، من قبيل الحديث عن “ما بعد الإسلام السياسي” أو “ما بعد السلفية”.. إلخ.
ومع أن الحديث عن “ما بعد الإسلام السياسي” كان متداولاً قبل منعطف يناير 2011، وخاصة مع أعمال آصف بيات واشتغاله على مفهوم “ما بعد الإسلاموية”، إلا أنه كان يدور في فلك الدراسات النظرية بالدرجة الأولى، لدى جزء من النخبة البحثية في المنطقة وفي الخارج، بل كانت العديد من الأقلام البحثية، تتفاعل مع أطروحة بيات باعتبارها ترفاً فكرياً، رغم وجود مؤشرات كانت تصب في تزكية مضامينها، إلا أن أجواء ما قبل يناير 2011 من جهة، وخاصة أجواء السنوات الأولى لنتائج هذا الحراك، مع صعود أحزاب “الإسلام السياسي” إلى سدة الحكم أو المساهمة في الحكم، كرست تفاعل الأقلام الإسلامية الحركية مع خطاب “ما بعد الإسلام السياسي”، أي صرف النظر عنه.
وما لم يكن متوقعاً حينها، سواء في مصر أو باقي دول المنطقة، وخاصة في الدول التي تتميز بحضور تديّن صوفي، ممتد إلى قرون مضت، أن يُصبح خطاب “الما بعيدات”، يهم حتى الطرق الصوفية نفسها، أي أن نطرق باب “ما بعد الطرقية”، ونقصد بها ابتعاد متديّن صوفي عن طريقة الصوفية وانفصاله التنظيمي عنها، دون الابتعاد عن المرجعية الصوفية.
وما عايناه مع التفاعل الأولي للحركات الإسلامية، الإخوانية والسلفية، مع خطاب “ما بعد الإسلام السياسي”، أي تبني خيار اللامبالاة، هو التفاعل نفسه الذي تعاملت به أغلب الطرق الصوفية مع خطاب “ما بعد الطرقية”، على الأقل خلال العقد الأخير، الممتد من يناير 2011، حتى نهاية 2020.
ما عايناه مع التفاعل الأولي للحركات الإسلامية، الإخوانية والسلفية، مع خطاب “ما بعد الإسلام السياسي”، أي تبني خيار اللامبالاة، هو التفاعل نفسه الذي تعاملت به أغلب الطرق الصوفية مع خطاب “ما بعد الطرقية”.
بل حتى الأجواء الميدانية التي كانت تصب في صالح تهميش خطاب “ما بعد الإسلام السياسي” حينها مع الحركات الإسلامية، أي أجواء الاحتفاء بالانتصارات الانتخابية، وبالتالي تبني خيار صوف النظر عن شبح “ما بعد الإسلاموية”، نعاين مثيلاً لها مع الأجواء الحالية عند الطرق الصوفية، وعنوانها الاحتفال الكبير بتبني الأفواج العربية والأجنبية للخطاب الصوفي، وبعضها قد يصل إلى تبني العمل الصوفي، مع هذه الطريقة الصوفية أو تلك، بما يُفيد أن أي حديث عن “ما بعد الطرقية”، من شأنه أن يُقابل هو الآخر بنوع من التهميش أو الازدراء من قبل رموز هذه الطرق وأتباعها.
والحال أن المتأمل في مسار العديد من أتباع الطرق الصوفية، ومعهم مسار العديد من الأسماء البحثية والعلمية الوازنة التي كانت تدافع عن العمل الصوفي في شقه الطرقي، قبل اتخاذها قرار أخذ مسافة منه، يُفيد أننا إزاء مؤشرات تصب في تزكية هذه الظاهرة، ونتوقف هنا عند أربعة مؤشرات على الأقل:
1 ــ تبعات الخوض في المعترك السياسي:
عاينا هذه الظاهرة مباشرة بعد اندلاع أحداث 2011، مع دخول العديد من الطرق الصوفية والأسماء البحثية الصوفية في العمل السياسي والانتخابي، سواء عبر التورط في إصدار البيانات السياسية أو نشر الإصدارات البحثية ذات المرجعية الصوفية، ولكنها تعج بالمواقف السياسية الصريحة، بصرف النظر عن طبيعة الاتجاهات والحسابات المصاحبة بهذه المواقف، من قبيل الانتصار لهذا النظام أو لغيره، الدفاع عن هذا المحور أو غيره.
2 ــ التزكية الذاتية للطريقة الصوفية:
هذه ظاهرة قائمة منذ عقود، بل إننا نجد مجموعة من الإصدارات الوعظية والبحثية التي تعج بخطاب تزكية الذات الصوفية الخاصة بطريقة صوفية ما، على حساب باقي الطرق الصوفية، لولا أن المنعطف الرقمي الذي يمر منه العالم بأسره، ومنه المنطقة العربية، كشف عن تصاعد مؤشرات هذه الظاهرة، كما لو أننا إزاء احتفاء بمكاسب “الرأسمال الرمزي” الصوفي، وحصره في الطريقة الصوفية المعنية دون سواها.
3 ــ أسلمة الخطاب الصوفي:
المقصود بأسلمة الخطاب الصوفي، أن تصبح مواقف العديد من أتباع الطرق الصوفية، منسجمة أو متقاطعة مع المواقف السياسية للحركات الإسلامية، في شقيها الإخواني والسلفي، وخاصة المواقف التي تصدر تفاعلاً مع بعض أحداث الساحة، كما نعاين ذلك في العالم الرقمي على الخصوص، سواء في مواقع التواصل الاجتماعي، من قبيل “فيسبوك” و”تويتر”، أو في التطبيقات الرقمية، من قبيل مجموعات “واتساب” المخصصة أساساً للتعريف والدفاع عن الخطاب الصوفي، ولكنها لا تخلو من وجود آراء سياسية لا تختلف كثيراً عن آراء أتباع الحركات الإسلامية، السياسية على الخصوص.
4 ــ ممارسات غير سوية في العلاقات الإنسانية:
عاينا هذه الظاهرة في العديد من الحالات، بسبب تبعات ممارسات غير سوية صادرة عن فاعلين أو مسؤولين في هذه الطريقة الصوفية أو تلك، وهي ممارسات لا أخلاقية، وتتعارض بالتالي مع تميز العمل الصوفي بالدفاع عن سؤال الأخلاق في العلاقة مع الذات والآخر، مقارنة مع باقي أنماط التديّن الدعوي والسياسي والقتالي أو “الجهادي”، ونحسبُ أن هذا أمر متوقع، لأن الحديث عن تنظيم ديني، بمؤسسات وهياكل وإدارات، لا بد أن يخضع للمنطق نفسه السائد في تدبير العمل المؤسساتي، حيث تبزغ قاعدة الصالح والطالح في أداء أعضاء المؤسسة.
عاينا هذه الظاهرة في العديد من الحالات، بسبب تبعات ممارسات غير سوية صادرة عن فاعلين أو مسؤولين في هذه الطريقة الصوفية أو تلك، وهي ممارسات لا أخلاقية، وتتعارض بالتالي مع تميز العمل الصوفي بالدفاع عن سؤال الأخلاق في العلاقة مع الذات والآخر.
ليست “ما بعد الطرقية” بديلاً للعمل الصوفي الطرقي، وإنما نتيجة من نتائج عدم التفاعل العملي مع مجموعة تحديات تمر منها هذه الطرق، بما يُفيد أن الطرقية باقية، على غرار باقي أنماط التديّن، لأنها فرع من فروع التديّن الصوفي، ما دام التصوف لا يُختزل في الطرق الصوفية وحسب، لولا أن بقاء الطرق الصوفية واستمرار إشعاعها يُصاحبه تباين في الأداء، حسب عدة محددات مؤثرة، قد يكون في صعود إذا أعادت النظر في مقتضى هذه التحديات، وقد يكون في أفول إذا استمرت على إيقاع اللامبالاة في التفاعل مع هذه المؤشرات.