إسلاميات… تقرير الحالة الدينية في المغرب (2018 ــ 2020): المؤسسات الدينية (1/3)
بقلم ✍️ منتصر حمادة
هذه خلاصات أولية من وحي المحاور التي اشتغل عليها تقرير الحالة الدينية الذي سيصدر عما قريب بحول الله، عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث، والخاص بحقبة 2018 ــ 2020، وهو حصيلة عمل جماعي، بمشاركة 11 باحثة وباحث، حيث تمّ اشتغل على أهم المحطات التي صدرت عن الفاعلين في الحقل الديني المغربي، سواء تعلق بالأمر بمؤسسة إمارة المؤمنين، أو المؤسسات الدينية أو الطرق الصوفية، أو باقي الفاعلين.
وجب التذكير هنا إلى أن التقرير لا علاقة له قط بتقرير حول الحالة الدينية في المغرب، يصدر عن المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، وهو مركز بحثي تابع لحركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية”، أي التابع لمَجَرة إسلامية حركية، نواتها حركة وحزب، حتى إن المشاركين في إصدار العمل، ينتمي أغلبهم إلى هذه المَجَرة، بمعنى، لن نجد ضمن هؤلاء من يشتغل خارج المرجعية الإسلاموية، أو كان محسوباً عليها، ومعلوم أنه يحق لأي مرجعية إيديولوجية الخوض في هذه القضايا، سواء كانت إيديولوجية دينية (إخوان، سلفية وهابية، داعشية، شيعية.. إلخ)، أو إيديولوجية مادية (قومية، اشتراكية، ليبرالية.. إلخ)، لولا أن هذا المحدد الإيديولوجي يبقى مرتبطاً بطبيعة ومرجعية تلك التقارير، وهذا ما نحاول تفاديه في تقرير الحالة الدينية المغربية الصادر عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث.
نؤسس هذه الخلاصات على محددين اثنين، ينهلان من خطاب الملك محمد السادس المؤرخ في 29 يوليوز 2019: محدد السقف التنموي، بمناسبة انخراط المغرب في الإعلان عن نموذج تنموي جديد؛ ومحدد السقف النقدي الذي تضمنه الخطاب نفسه:
1 ــ لقد تضمن هذا الخطاب وقفات نقدية عند طبيعة النموذج التنموي المغربي، بما أفضى إلى الإعلان لاحقاً عن تشكيل لجنة لإعداد نموذج تنموي بديل، انتهت من مهمتها في يناير2021.
ورُب معترض أنه لا علاقة بالمجال الديني، بموضوع النموذج التنموي المغربي البديل، والحال أن اعتراض مردود عليه لعدة اعتبارات، نذكر منها ثلاثة على الأقل:
ــ أولها أن الملك في الدستور المغربي هو أمير المؤمنين كذلك، وبالتالي عندما يتحدث عن تواضع أداء النموذج التنموي في المغرب، فلأنه لا يقصد حقلاً مجتمعاً محدداً، من قبيل الحقل الاقتصادي أو الحقل السياسي أو الحقل الجمعوي.. إلخ، وإنما يقصد مُجمل المجالات المجتمعية، ومنها الحقل الديني.
ــ وثاني هذه الاعتبارات، أنه خلال عمل اللجنة المعنية بالاشتغال على النموذج التنموي البديل، استقبلت أيضاً فاعلين في مؤسسات دينية، من باب الاطلاع على مقترحات هؤلاء، بصرف النظر عن طبيعة القوة الاقتراحية للأسماء الدينية المعنية، كأن تكون نوعية أو متواضعة.
ــ وثالث هذه الاعتبارات أنه في مقام مؤسسة إمارة المؤمنين، وفي السنة نفسها التي تطرق فيها الملك لإعادة النظر في النموذج التنموي المغربي، ألقى أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، درساً حسنياً رمضانياً يوم الجمعة 10 ماي 2019، بالقصر الملكي، متناولاً بالدرس والتحليل موضوع “استثمار قيم الدين في نموذج التنمية”.
2 ــ بالنسبة لمحدد السقف النقدي، فإنه يُخول لنا الرفع من مؤشر النقد الموجه إلى الفاعلين في الحقل الديني المغربي، ونخص بالذكر الفاعلين في المؤسسات الدينية والطرق الصوفية، من باب تقويم أداء هؤلاء، انطلاقاً على السقف النقدي الذي جاء في الخطاب الملكي، وأخذاً بعين الاعتبار مكانة ومرجعية مؤسسة إمارة المؤمنين في الثقافة والتاريخ والاجتماع المغربي بشكل عام، فلا يمكن لأي فاعل من هؤلاء الاعتراض على مرجعية ووجاهة هذا السقف النقدي الملكي، لأنه جاء في سياق نقد الذات، وأخذ مسافة من خطاب الطمأنة السائد بشكل عام في الخطاب الرسمي الصادر عن المؤسسات الدينية أو عن الفاعلين الصوفيين.
تأسيساً على مقتضى المحددات أعلاه، نتوقف إذن عند بعض الخلاصات التي تهم أداء الفاعلين الدينيين في الحقل الديني المغرب، ونتوقف في هذه المقالة عند أداء المؤسسات الدينية:
المؤسسات الدينية: إعادة ترتيب وتقويم الأداء صيانة للدولة والدين
تكمن أهمية السقف النقدي الذي جاء في خطاب 29 يوليوز 2019، في أنه صادر عن أعلى مؤسسة سياسية ودينية في المغرب، وهي مؤسسة إمارة المؤمنين، والتي تشتغل تحت مظلتها جميع المؤسسات الدينية.
هناك مجموعة من الملاحظات النقدية التي يجب تسليط الضوء عليها، بخصوص تقييم وتقويم أداء المؤسسات الدينية المغربية، أخذاُ بعين الاعتبار أنها تتحمل مسؤولية دستورية، عنوانها تفعيل توصيات وتوجيهات مؤسسة إمارة المؤمنين:
ــ في الشق الخاص بأداء المجالس العلمية المحلية، وعددها 84 مجلساً علمياً محلياً، هناك غياب كبير للإنتاج البحثي، وغياب التفاعل والحضور الرقمي، حيث لا نعاين صدور مجالات ناطقة باسم هذه المجالس، مع استثناءات خاصة، من قبيل ما يقوم به المجلس العلمي المحلي لسلا أو بني ملال ومجالس أخرى، ولكن عدد هذه المجالس المنخرطة والفاعلة في هذا المضمار، متواضع مع أداء الأغلبية.
ــ رغم الفورة الرقمية التي تمر منها المنطقة، على غرار دول العالم، ورغم الحضور الرقمي الكبير للخطاب الإسلامي الحركي في الساحة، بما يُفسر بعض أسباب هجرة الشباب المغربي نحو الخطاب الديني المشرقي (السلفي الوهابي، الإخواني، القتالي.. إلخ)، لا زالت المجالس العلمية المحلية متواضعة في الأداء الرقمي، بل إنه حتى ربيع 2021، تاريخ صدرو هذا التقرير، يُعاين المتتبع أن مؤسسة المجلس العلمي الأعلى، التي تحتضن جميع المجالس العملية المحلية، لا تملك موقعاً إلكترونياً ناطقاً باسمها، بينما نجد عند الحركات الإسلامية، الإخوانية والسلفية الوهابية، مواقع رقمية وحضور رقمي، والأمر نفسه مع الغياب الرقمي لرموز المؤسسات الدينية، حيث يقتصر الحضور الرقمي على بعض العلماء أو الوعاظ أو الموظفين، ويتم ذلك الحضور بشكل تطوعي، أو من باب إبراء الذمة الأخلاقية في مواجهة تقاعس رقمي مؤسساتي، مع أنه الحضور الرقمي من صلب المهام المنوطة بهذه المؤسسات، أي مهام الوعظ والتوجيه والإرشاد.
ــ في خلاصات التقرير السابق للحالة الدينية في المغرب، والخاص بحقبة 2015 ــ 2017، أوردنا بعض الملاحظات النقدية حول أداء هذه المؤسسات، ولا زالت قائمة، منها الإصرار على الاشتغال بمنطق “الجزر المؤسساتية المعزولة”، أي الاشتغال المؤسساتي البعيد عن التنسيق الذي يُفيد الأفق المغربي الاستراتيجي الدولاتي، لأن الأمر لا يتعلق بتفوق مؤسسة دينية عن أخرى في الأداء الكمي والنوعي، وإنما يجب أن نعاين أداءً تدبيرياً متميزاً موازياً عند جميع المؤسسات الدينية، بما يصب في صالح تغذية الإشعاع المحلي والإقليمي والدولي لمؤسسة إمارة المؤمنين، موازاة مع تغذية أحد أهم الرهانات الملقاة على عاتق مُجمل هذه المؤسسات، وعنوانه صيانة الأمن الروحي للمغاربة.
ــ من مؤشرات صيانة الأمن الروحي للمغاربة، أن يكون الفاعلون في هذه المؤسسات الدينية، من أشد المؤمنين بُمميزات التديّن المغربي، والواقع في أداء هذه المؤسسات، يُفيد أنها تضم فاعلين كانوا في حقبة ما لا يؤمنون بمرجعية مؤسسة إمارة المؤمنين، لولا أن هذا الإدماج، تحت شعار “المقاربة التشاركية في تدبير الشأن الديني” بتعبير أدبيات الحركات الإسلامية، يتطلب فترة زمنية في حقبة ما بعد المراجعات، وما بعد إدماجهم في تلك المؤسسات، حتى نتأكد من أحقية إيمانها بالمؤسسة والإيمان بالتالي بالتوابث الدينية في المغرب. كما يُفيد أداء تلك المؤسسات، أن تطليق أو أخذ مسافة نظرية صريحة من الخطاب الديني الإيديولوجي، ليس صريحاً في خطاب وأداء العديد من المؤسسات المعنية، نظرياً، بتفعيل توصيات وتوجيهات مؤسسة إمارة المؤمنين، ومنها صيانة الأمن الروحي من خطاب تلك المشاريع الإيديولوجية، بما فيها إيديولوجيات “الخلافة” و”المرشد” و”الجماعة قبل الوطن” و”الحاكمية” و”الجاهلية”.. إلخ.
ــ أخذا بعين الاعتبار تأكيد الملك محمد السادس، أن النموذج التنموي المغربي يمر من أزمة، تطلبت الإعلان عن خلية تفكير لإطلاق أرضية نظرية تروم الإعلان عن مشروع تنموي بديل، فمن المنتظر أو من المطلوب أن نعاين نتائج تلك الأرضية الجديدة، على أداء المؤسسات الدينية، التي تحتاج إلى أفكار جديدة وأسماء جديدة، مساهمة في صيانة النموذج الديني المغربي.
ــ عندما يدعو الأستاذ سعيد بيهي، وهو مسؤول ديني، يترأس مجلساً علمياً محلياً، المؤسسات الدينية والعلماء إلى “إلى التحرك لوقف استقطاب التنظيمات الإرهابية للشباب في مواقع التواصل الاجتماعي”، فهذا إقرار مسؤول يؤكد تواضع أداء المؤسسات الدينية المعنية، أو غيابه، سواء تعلق الأمر بأداء أغلب مؤسسات المجالس العلمية المحلية، أو أداء الرابطة المحمدية للعلماء، ولو كان حضور هذه المؤسسات في هذا المضمار، نوعياً ووازنا، كماً ونوعاً، ما كان المحاضر، وهو رئيس مجلس علمي محلي، أن يتحدث أو يوجه الدعوة لهذه المؤسسات لأن تتحرك في هذا المضمار.
ـــ كانت زيارة بابا الفاتيكان للمغرب، بين 30 و31 مارس 2019، مؤشراً دالاً حول تواضع أداء المؤسسات الدينية في التفاعل البحثي والإعلامي والتواصلي، إلى درجة أن بعض القضايا التي أثيرت على هامش الزيارة، بسبب توظيفات وقراءات اختزالية متوقعة، صادرة عن أتباع المشروع الإسلامي الحركي، على الصعيد المحلي والإقليمي، قوبلت بغياب شبه كلي في الرد والنقد والنقض من طرف رموز المؤسسات الدينية، ونخص بالذكر، المجالس العلمية المحلية والرابطة المحمدية للعلماء، ومن ذلك، أن عدد المقالات الصادرة عن هذه المؤسسات قبل موعد الزيارة، كان نادراً، أخذاً بعين الاعتبار عدد هذه المؤسسات والأدوار المنوطة بها من جهة، وأخذاً بعين الاعتبار من جهة ثانية، التفاعل الدولي، الكمي والنوعي الذي حظيت به الزيارة. [كان أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، حالة خاصة، خرجت عن هذه السلبية في معرض التصدي لهذا التشويش، حيث أدلى بتصريحات تتطلب تقعيداً نظرياً من الفاعلين في المؤسسات الدينية، من قبيل ما صرح على هامش هذه الزيارة بخصوص أدوار مؤسسة إمارة المؤمنين في حل “كثير من الإشكاليات التي قد يشكو منها تدبير الدين في جهات أخرى، ومنها إشكالية حضور الدين في الدولة، وحمايته، وعلاقته بالسياسة، وبالحركات المسماة “الإسلامية”، وبتطبيق الشريعة، وبالتيارات المتشددة، وبالحريات، وبالقيم الكونية، وبالتعليم الديني، وأخيراً مسألة العلاقة بالعلماء”، وهذه مفاتيح نظرية نوعية، من المفترض أن تكون هاجس أغلب المسؤولين في المؤسسات الدينية، سواء صدرت في صيغة مؤتمرات أو ندوات أو محاضرات أو إصدارات]
ــ لم تقتصر دروس زيارة بابا الفاتيكان للمغرب على تأكيد التواضع التفاعلي للمؤسسات الدينية، من قبيل غيابها الرقمي، مقابل الحضور الكمي للخطاب الإسلامي الحركي، الإخواني والسلفي الوهابي الذي شوش على الزيارة لاعتبارات إيديولوجية، ولكن كشفت الزيارة ذاتها عن حالة “أسلمة مخيال المغاربة” بسبب تأثير الخطاب الإسلامي الحركي على هذه المخيال خلال العقود الماضية، وهو التأثير القائم قبل الإعلان عن مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني في أبريل 2004، ولا زال قائماً حتى بعد مرور عقد ونصف على انطلاق المشروع، بسبب تواضع أداء بعض هذه المؤسسات في مقاومة تلك الأسلمة، القائمة حتى في بعض هذه المؤسسات، فالأحرى في الجامعات وفي الإدارات العمومية ومنظمات المجتمع المدني.
ــ سواء تعلق الأمر بالعمل الجماعي لمواجهة “التطرف العنيف”، أو في الحضور الرقمي لمنافسة خطابات دينية شاذة عن التديّن المغربي، أو في تراجع نسبة الفاعلين المؤمنين بالتوابث الدينية المغربية، بحكم عامل السن، أو بمقتضى الابتعاد عن الخوض النظري والعملي في تحمل مسؤولية العمل الديني، فإن المؤسسات الدينية في أمس الحاجة إلى إعادة هيكلة تتطلب أفكاراً جديدةً، وأسماءً جديدةً، وأخذاً بعين الاعتبار أنه مرت 16 سنة على انطلاق مشروع “إعادة هيكلة الحقل الديني”، ابتداءً من أبريل 2004، وعلى غرار ما عاينا في مجالات أخرى، من قبيل مشروع “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” الذي يوجد في مرحلته الثالثة، فالأمر نفسه أصبحت معنية به عملية تقويم أداء المؤسسات الدينية في المغرب.
ــ من مخرجات هذا المطلب الضروري، وعنوانه إطلاق نسخة جديدة من مشروع “هيكلة الحقل الديني”، بمبادرات جديدة وأسماء جديدة، بأفق استراتيجي يُكرس أفق صيانة الدولة والدين، من أجل مواجهة تحديات الداخل والخارج، ومن أجل منافسة تجارب إقليمية صاعدة ومؤثرة في المنطقة، انطلاقاً من أرضية لا تتوفر عليها دول المنطقة، وهي أرضية مؤسسة إمارة المؤمنين، بعراقتها التاريخية وأفقها الإصلاحي. [أكدت التجربة التاريخية في مغرب ما بعد الاستقلال، أن البوابة السياسية مؤثرة في التسريع من وتيرة تجديد الخطاب الديني، أو “الإصلاح الديني” في سياقه الإسلامي، كما جرى مع ثقل مؤسسة إمارة المؤمنين في ملفات “مدونة الأسرة”، 2004، أو السماح للمرأة بأن تزاول مهنة العدول، 2018].