مذكرات لحسن السباعي الإدريسي مع الخزينة العامة والعمل الصوفي
بقلم ✍️ منتصر حمادة
نحن في ضيافة العمل الرابع للباحث لحسن السباعي الإدريسي، والذي رغم التزاماته المهنية، يصدر بين الفينة والأخرى بعض الأعمال، ومنها إصدارات سابقة حول الاقتصاد، التصوف، والاقتصاد، وهي: “التعليم والاقتصاد، أية علاقة؟” (2013)، “الصوفية والتضامن الاقتصادي في المغرب” (2009) و”التصوف والمجتمع” (2007). والحديث عن كتاب يحمل عنوان: “الخزينة العامة المغربية: تاريخ وحياة”، وجاء الكتاب في 348 صفحة، وصدر عن دار “مفترق الطرق” المغربية، ط 1، 2020)
والعمل في الواقع، عبارة عن سيرة ذاتية، وإن تضمن مجموعة مراجع، حيث بقي النفس البحثي حاضراً، لكنه سفر في ذكريات المؤلف، ذات الصلة بالمسار العائلي والمهني، وذات صلة أيضاً بتجربته الدينية الصوفية، كما تضمن وقفات مع مجموعة من أحداث الساحة المغربية والدولية، في السياسة والاقتصاد والثقافة والدين.
تضمن العمل مقدمة بقلم نور الدين بنسودة [ص 9- ص 13]، الخازن العام للمملكة، خاصة أن المسار المهني للمؤلف بداية، هو أستاذ المالية العامة ومكون في محاسبة الدولة، كما شغل منصب خازن وزاري سابقاً، ومتخصص في تدبير الصفقات العمومية، حيث اعتبر بنسودة أن “الهدف من الكتاب هو مشاركة القراء إنجازات الإدارات العمومية وحياة الموظفين الذين يكرسون جزءًا كبيراً من وقتهم للخدمة العمومية”، مضيفاً أن المؤلف يقدم عبر السرد، مفتاحاً لفك رموز التاريخ، من خلال مزاوجته بتجربة شخصية غنية، وذلك عبر سرد وقائع ومساوئ مساره بطريقة رومانسية، بعيداً عن السيرة الذاتية، وأن الكاتب انخرط في تمرين معقد عبر مساءلة التاريخ الاجتماعي والسياسي، من دون الوقوع في التأريخ المحض، وأنه يُحسبُ لمؤلفه أنه تمكن من تقديم عمل مفيد من خلال عرض التاريخ الحديث للخزينة العامة للمملكة في جوانبه المعروفة، والمعروفة بشكل أقل، عبر الانتقال بين فترات تاريخية هامة مختارة بدقة وعناية ووضوح، وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فالكتاب جاء في وقته المؤسساتي، لأنه يتزامن مع الاحتفال بالذكرى المئوية للخزينة العامة للمملكة والمحاسبة العامة وافتتاح متحف هذه المؤسسة (ص 12)، مما خوّل للخازن العام للمملكة التأكيد على أن الكتاب يُشكل معلماً إضافياً يثري هذا السعي النبيل للحفاظ على تراث وتاريخ مؤسسة عمومية مركزية في المشهد المالي الوطني.
من مؤشرات تبني المؤلف لثقافة الاعتراف، أن العمل تضمن صفحة كاملة، عبارة عن إهداء موجه من جهة إلى العديد من المسؤولين في الخزينة العامة للمملكة، وفي الحزب السياسي الذي كان ينتمي إليه، وموجه من جهة ثانية إلى أفراد عائلته، إضافة إلى استهلال خاص، كان موجهاً إلى الشيخ جمال القادري البودشيشي، شيخ الطريقة القادرية البودشيشية، وإهداء موجه أيضاً إلى أب الشيخ حمزة، الراحل حمزة القادري البودشيشي، الذي ترك فراغاً كبيراً في الساحة الصوفية المغربية، يصعب تعويضه، على غرار ما نعاين في حقول مجتمعية وأخرى، وإن كان الشيخ الحالي، وفياً للأفق التربوي والإصلاحي النافع الذي كان يقوده الشيخ حمزة.
من مميزات الكتاب أيضاً، موسوعية ثقافة مؤلفه، حيث ينتقل بالقارئ من الاقتصاد إلى السياسية، مع مرور عبر الدين والثقافة والاجتماع، وسرد لوقائع وذكريات، شخصية ومهنية وغيرها، وهذه ميزة نجدها على الخصوص مع النخبة المغربية السابقة، أو ما تبقى منها، في عدة حقول ومجالات، لأن السائد حالياً، في هذا الأفق الموسوعي، عنوانه التواضع، أو حالة الندرة، من فرط تراجع نوعية النخبة المغربية بشكل عام، بصرف النظر عن طبيعة المجال الذي تشتغل فيه، لأن التراجع هنا يهم الحقول السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية وغيرها.
وفي هذا السياق، نتوقف عند إشارة معبرة، فقد سبق للمؤلف في حقبة ما، أن نشر عدة مقالات حول قضايا الاقتصاد، التصوف، المالية، في منابر إعلامية مغربية، وخاصة المنابر المتخصصة في الاقتصاد، ولكن وصل الأمر هنا إلى أنه نشر مقالاً حول الدين العمومي في صحيفة “لوموند” الفرنسية (ص 263)، وهذا مؤشر آخر من مؤشرات التراجع الكمي والنوعي في أعمال الأسماء المغربية، بين اليوم والأمس، ويكفي طرح السؤال التالي، حتى نأخذ فكرة عن بعض معالم هذا المؤشر: هل يوجد هناك باحث مغربي اليوم، ينشر في صحيفة “لوموند”؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أن وزن تلك الصحيفة بالأمس، أكبر بكثير مقارنة مع وزنها اليوم، بفعل عدة تطورات، منها دخول المساهمات الرأسمالية في الخط التحريري (كان أبرزها الدعم المالي الذي حظيت به من طرف رجال الأعمال العالمي بيل غيتس)، ولكن بالرغم من ذلك، إن مجرد النشر اليوم في الجريدة، أمر غائب في الساحة المغربية.
ومن إحدى المفارقات الدالة بالنسبة للمؤلف، والتي تجمع بين عمله في مؤسسة الخزينة العامة والانتماء للعمل الصوفي، تكمن في أن الالتحاق بالمؤسستين، أو بالعمل الإداري والعمل الديني، تمّ في الحقبة نفسهاً تقريبا: التحق لحسن السباعي الإدريسي بمؤسسة الخزينة العامة للمملكة في 16 دجنبر 1980، وانضم إلى الطريقة القادرية البودشيشية في 27 يناير 1981 (ص 337)
من الذكريات التي توقف عندها المؤلف، وتتطلب وقفة تأمل، تلك الخاصة بالأيام التي قضاها المؤلف رفقة زوجته في فرنسا، على هامش مشاركة علمية له، وتزامنت الزيارة مع اعتداءات 11 سبتمبر 2001، حيث يتوقف المؤلف عند طبيعة الهوس الإعلامي والسياسي الذي عاينه في الساحة الفرنسية بالتحديد، بما تطلب منه بداية، الابتعاد عن الأماكن العمومية لبضع أيام فقط، قبل أن يتضح له، أنه إجمالاً، كان الرأي العام الفرنسي مختلفاً في تعامله مع الجالية المسلمة، سواء ما عاينه في الفضائيات أو المحطات الإذاعية، وخلُص إلى أن الاتجاه العام كان متأثراً بالنزعة الديغولية، وعنوانها هنا، أخذ مسافة من الصراعات الشرق الأوسطية. (ص 266) [وهي النزعة التي تقف وراء موقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي عارض الحرب الأمريكية على العراق، والتي أفضت إلى إسقاط نظام صدام حسين، وإهداء العراق للمشروع الإيراني، إضافة إلى مضاعفات ميدانية أخرى، منها تغذية أسباب الظاهرة الجهادية]. وفي هذه الشهادات التي جاءت في الكتاب، تكمن أهمية هذه الأعمال، مع أنها مشاهدات وذكريات صادرة عن رجل مالية عمومية، ورجل اقتصاد، ولكنه متمكن بحثياً ومتتبع، ويقظ ذهنياً، إضافة إلى حضور النهل الصوفي الذي يجعله مؤهلاً لكي يتعامل مع أوضاع الساحة بشغل مختلف مقارنة مع متابعة الذين ينهلون من التديّن الإيديولوجي، من قبيل التديّن السلفي الوهابي أو التديّن الإخواني.. إلخ.
تضمن الكتاب/الذاكرة، فصلاً بعنوان السنونو والربيع، وكان مخصصاً للخوض في قضية إشكالية حُرّر فيها الشيء الكثير محلياً وإقليمياً، وهي أحداث الفوضى الخلاقة التي اصطلح عليها أحداث “الربيع العربي”، في نسخته المغربية، وما يهمنا هنا أكثر، خوض المؤلف في موقف الطريقة القادرية البودشيشية التي ينتمي إليها، والتي للتذكير، تنتمي إليها مجموعة من أسماء الساحة السياسية والفكرية وغيرها، مع فارق أنها لا تتحدث عن ذلك، إما من باب عدم إثارة انتباه الغير، وخاصة أتباع التديّن الحركي، أو من باب عدم الدعاية للعمل الصوفي، وهذا مقام من مقامات الإخلاص، ولو إنه لا يمكن الاعتراض قط عن إعلان الانتماء، إن كان هدفه التنويه بنموذج إحساني وأخلاقي في التديّن، نحتاجه أكثر من النماذج الدينية التي تسببت لنا في مشاكل مع المسلمين ومع غير المسلمين.
توقف المؤلف إذن عند موقف الطريقة القادرية من التعديل الدستوري، حيث شاركت في مسيرة الدار البيضاء الشهيرة، للإعلان عن موقفها المؤيد بالتصويت لصالح التعديل، وهو الموقف الذي كان سيد الميدان عند العامة والنخبة حينها، (بصرف النظر عن كون مخرجات هذا التعديل أفضت إلى التصويت على دستور، اتضح بعد سنوات لاحقاً، أنه متقدم كثيراً على أداء أغلب هذه النخب، وخاصة النخب السياسية والحزبية)، وقد اعتبر لحسن السباعي الإدريسي أن موقف الطريقة أملته اعتبارات وطنية واعتبارات دينية (ص 320)، وهذا أمر متوقع من أهل العمل الصوفي بشكل عام. [مرة أخرى، نعاين هنا بعض الفوارق بين التديّن الصوفي والتديّن الإسلامي الحركي، ومن ذلك، أن الطريقة أو أي طريقة صوفية أخرى هنا في المغرب، لم تشارك في مؤتمر كوالامبور المؤرخ في 22 ديسمبر 2019، بحضور رموز ما كان يُسمى المحور الإيراني ــ التركي ــ القطري، وبخصوص الرموز الإخوانية الإقليمية، ومنها الإسلاميين المغاربة، سواء تعلق الأمر بقيادة حركة “التوحيد والإصلاح” أو جماعة “العدل والإحسان”، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدولة المغربية رفضت المشاركة في المؤتمر، لأنها أخذت مسافة أساساً من الصراعات الاستراتيجية في المنطقة، وبالرغم من ذلك، شارك الإسلاميون المغاربة، ورفض أهل العمل الصوفي المشاركة]
للمؤلف تجربة سياسية مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، قبل أخذ مسافة، ونقتطف هنا إشارة تهم المشروع اليساري المغربي بشكل عام، جاء فيها، أنه حتى قدوم عبد الرحمن اليوسفي الذي سيصبح قائم الحزب، فإن هذا الأخير، لم يستوعب معنى الاستثناء المغربي (ص 338)، ولعل هذه الجزئية تهم الإيديولوجيات المادية هنا في المغرب (اليسار بشكل عام)، والإيديولوجيات الدينية أيضاً (من سلفية وهابية وإخوان: الأولى في معرض تعاملها مع التديّن المغربي الأصيل، يكفي أنه تديّن متأثر بالعمل الصوفي، منذ قرون مضت، بمقتضى لقب “مملكة الأولياء” الذي توصف به المملكة المغربية؛ والثانية، أي الإيديولوجية الإخوانية، بمقتضى سعيها في مرحلة هامة إلى “أسلمة المجتمع والنظام والدولة”، كما لو أن الأمر يتعلق بمغرب جاهلي، بمقتضى أدبيات سيد قطب، التي تنهل منها هذه الجماعات).
ننهي هذه الإطلالة بملاحظتين:
ــ تفيد الأولى أن مضامين الكتاب تتوقف عند إشارات مفيدة للذين يشتغلون على قضايا الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. وفي محطات عدة من العمل، يبدو كما لو أننا إزاء مؤرخ، لكنه يتناول قضايا محلية ودولية من منظور تفاعله المهني والعائلي.
ــ تهم الملاحظة الثانية العديد من المسؤولين في الدولة، سواء تعلق الأمر بالذين يوجدون في موقع المسؤولية أو الذين أحيلوا على التقاعد، حيث إن مثل هذا الأعمال مفيدة لكي ينخرط هؤلاء في التأليف ونشر مثل هذه المذكرات الغنية والمفيدة للباحثين والمتتبعين، إضافة إلى أنها تغني المكتبة المغربية التي تعاني خصاصاً في مثل هذه الأعمال التي نحسبها نافعة وهامة.