الندية والوضوح .. أسس العلاقات الجديدة التي يريدها المغرب مع مدريد
الدار / افتتاحية
البلاغ الذي أصدرته وزارة الشؤون الخارجية والتعاون بالأمس بخصوص الأزمة الدبلوماسية مع الجارة إسبانيا، يؤكد أن المغرب قرر بشكل نهائي ولا رجعة فيه طي نمط قديم في تدبير العلاقات بين البلدين، وفتح صفحة جديدة عنوانها الرئيسي هو الندية والمعاملة بالمثل والصراحة. وتلخص عبارة مركزية في البلاغ المذكور هذه المرحلة الجديدة التي انتقلت إليها العلاقات بين البلدين عندما تساءل “كيف تحارب الانفصال في بلدك وتدعمه لدى جارك؟”. من الواضح إذن أن المغرب عازم على الذهاب بعيدا في موقفه من هذه القضية من أجل إنهاء سنوات طويلة شابها الكثير من التغاضي والتساهل مع عجرفة اسبانيا واستغلالها للقضية الوطنية ولعبها على الحبلين لضمان مصالحها ولو على حساب قواعد الجوار التاريخية بين البلدين.
لم يبق بعد بلاغ وزارة الشؤون الخارجية إلا التصعيد إلى مرحلة أكثر حسما قد تتمثل مباشرة في إعلان قطع العلاقات مع مدريد رسميا. لقد جاء البلاغ مليئا بالكثير من الأسئلة الجوهرية والصريحة. “ماذا تريد اسبانيا فعلا؟” إنه سؤال يعكس الوضوح والحسم الذي يبحث عنه المغرب فيما يتعلق بعلاقاته مع الجارة الإيبيرية. هذا السؤال يُطرح عادة في نهاية جدل طويل بين طرفين، عندما تنتهي كل الادعاءات والمزاعم. وقد حاولت اسبانيا منذ اندلاع الأزمة الأخيرة التي تسببت فيها أن تقدم كثيرا من الحيثيات الخارجة عن السياق، عندما ربطت بين مواقف المغرب، وقضية استقبالها لزعيم البوليساريو إبراهيم غالي لأسباب إنسانية كما تدعي. لكن مدريد تدرك، كما أكدت على ذلك وزارة الخارجية المغربية، أن حقيقة الخلاف أعمق بكثير من مجرد استقبال لشخص مثل “بنبطوش !!”.
المغرب ينتظر إذن أكثر من مجرد استماع محكمة اسبانية لإبراهيم غالي أو حتى من اعتذار رسمي عن استقباله أو طرده من التراب الإسباني. كل هذه الإجراءات لا تكفي لبناء علاقات متينة على أرضية جديدة بين البلدين. لقد قدم المغرب الكثير لإسبانيا، وتعاون معها في كل المجالات الأمنية والإنسانية والاقتصادية، وفسح لها المجال عبر عقود طويلة لتنمية هذه المصالح وتطويرها. ورفض أن يكون خلفية للانفصال الكتالاني أو حتى الباسكي. ونسق مع السلطات الإسبانية بشكل دبلوماسي وقانوني في هذا المجال، لكن مدريد لا تريد أن تعامل المغرب بالمثل، لأن العقلية السائدة في قصر “لامونكلوا” لا تزال تنظر إلى المغرب نظرة كولونيالية احتقارية، باعتباره مجرد تابع يمكن توظيف نزاع مفتعل لابتزازه بدعوى دعم التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن اسبانيا لا يمكنها أن تُنكر مسؤوليتها التاريخية في زرع الانفصال في الأقاليم الجنوبية، وتغذيته طوال عقود، لأنها لا تريد مغربا موحدا قويا قادرا على منافستها وحماية مصالحه من استغلالها وابتزازها. لم ينس المغاربة بعد كيف كانت مدريد تغير لهجتها وتكشر عن أنيابها كلما حان موعد نهاية اتفاقية الصيد البحري وتجديدها، ولم ينس المغاربة أيضا كيف كان المزارعون الاسبان يعترضون الشاحنات المغربية ليتلفوا شحنات الطماطم والخضراوات، خوفا من منافستها، تحت أنظار السلطات الإسبانية بل وحمايتها. وهو المنظور ذاته الذي لا تزال اسبانيا إلى اليوم تنظر من خلاله إلى المغرب، بتواطئ صريح مع من يعملون على تقسيمه وتشتيت وحدته الترابية.
على اسبانيا أن تجيب إذن بوضوح وصراحة: هل تريد مغربا موحدا ومستقرا أم أنها تريد جارا مقسما ومزروعا بفتن الجهوية التي اكتوت بنارها في كتالونيا والباسك؟ وهذه اللحظة التاريخية التي تمر بها العلاقات بين البلدين هي أنسب ظرف للحسم في هذا السؤال، وإنهاء الاعتقادات العتيقة بأن المغرب حديقة خلفية لهذا البلد أو ذاك.