بقلم: يونس التايب
في مواقف كثيرة، تستوقفني كمية العنف اللفظي والقسوة في المواقف التي تميز ردود أفعالنا عندما يقع شخص في زلل أو خطأ، يعتقد الناس أنه يستحق الانتقاد. و يكون الأمر أكثر حدة عندما يكون صاحب “الزلل” شخصية عمومية، من عالم السياسة أو الفن أو الرياضة أو الأعمال، حيث نرى الناس يسارعون بالصعود إلى “منابر الوعظ الاجتماعي”، و يتحول الجميع إلى رسل منزهين عن الخطأ، و يبدأ الهجوم اللفظي الحاد على من أخطأ … و “هاك بلاك… ما كاين غير التشيار بالهضرة… و كلشي تايولي مثالي و منزه و عارف بالأخلاق الحميدة، غير هذاك مسكين اللي جات فيه النوبة!”.
هذا الأسبوع، صادفت حملات استنكار شرسة و انتقادا لفظيا عنيفا، و سخرية بئيسة، انخرط فيها عدد من مواطنينا ضد ملاكم مغربي شاب، اسمه يونس باعلا، اتهم بأنه “شوهنا” بعد أن “عض” أذن منافسه في مباراة ملاكمة خلال أولمبياد طوكيو، فقامت الدنيا حوله و لم تقعد. و صراحة، لم أرغب في التطرق إلى الموضوع لولا أنني تفاجئت أن بعض الأقلام الصحفية المحترمة، و بعض المؤثرين الجادين، انخرطوا هم أيضا، مع كامل الأسف، في “الحملة” بشكل غير عقلاني و غير مبرر، و ساهموا في تأجيج “حفلة الرجم” على مواقع التواصل الاجتماعي، و كأن ملاكمنا الشاب قد أذنب ذنبا لا يغتفر، أو أنه أتى بما لم يأت به أحد قبله من الرياضيين، أو من البشر عامة.
الحقيقة هي على غير ذلك، و حري بنا أن ننزل من أبراجنا العاجية و نستحضر أن الخطأ و الانفعال وارد في الرياضة و في غيرها، و أن التعاطي البناء مع “المخطئين” له قواعد و ضوابط، ليس من بينها القسوة و السخرية و العنف اللفظي الذي قد يؤدي إلى نسف أحلام و طموحات مشروعة، خاصة لفئة الشباب.
ما حدث للملاكم المغربي هو تصرف انفعالي مفاجئ، يمكن أن يقع أثناء منافسات رياضية أو خارجها، بسبب ضغط عصبي أو نفسي يصل إلى درجة حادة تدفع صاحبها إلى أن يبتعد عن سلوكه العادي، و يتصرف بشكل عنيف في لحظة انفلات غرائزي. و قد يكون لذلك سبب وقع خارج السياق التنافسي، أو سبب يجري أثناء زمن التنافس، دون أن ينتبه له أحد سوى المعنيون على أرض حلبة التباري.
و هنا، لا بد أن أذكر حالتين مماثلتين سابقيتين، الأولى لأحد أكبر أبطال رياضة الملاكمة في التاريخ، و هو مايك تايسون، الذي عض أذن منافسه الكبير إيفاندر هوليفيلد، في بطولة العالم، سنة 1997، أمام أعين مئات الملايين من المتفرجين الذين كانوا يشاهدون النزال مباشرة. لم يفهم أحد سبب ما قام به مايك تايسون، إلى أن أخبر هذا الأخير، جمهوره و وسائل الإعلام، أن سلوكه الانفعالي جاء كدر فعل على تعمد “هوليفيلد”، في كل التحام بينهما، أن يضرب برأسه وجه تايسون، مما استفزه فوقع ما وقع.
و الحالة الثانية، و هي شهيرة أيضا، وقع فيها لاعب كرة القدم “لويس سواريز”، الذي عض، في مناسبتين اثنتين، لاعبين منافسين : المرة الأولى، سنة 2013، بقميص ليفربول حيث قام بعض لاعب شيلسي برانيسلاف إيفانوفيتش؛ و المرة الثانية، بقميص منتخب الأوروجواي، حيث عض لاعب منتخب إيطاليا جورجيو كيليني، في كأس العالم 2014. و أتذكر لصاحبنا لويس سواريز، محاولات أخرى للعض، لم تكتمل في بعض مباريات الليجا.
الفرق بيننا وبين المعنيين بالحالتين معا، أن الجمهور لم يتصرف، هنالك، كما لو أن السماء سقطت على رؤوس سكان الأرض، و لم يتم تعريض الرياضيين للرجم اللفظي و السخرية بلا حدود، و لم يتهمهما أحد بأنهم “شوهوا” بلدهم أو أساءوا لقضية معينة، بل طبقت عليهم قوانين اللعبة، وحازوا بعض الانتقاد المعقول، و انتهى الأمر لتستمر الحياة.
بكل تأكيد، كل البشر قد يغضبون و ينفعلون، و يحدث أن يتجاوز الانفعال الحد ليتحول، فجأة و في سياق معين، إلى سلوك شبه غرائزي ينتج عنه عنف. لكنني، لا أعتقد أن الأخطاء، حين تقع في السياق الرياضي، تعطينا الحق كي ننزل بعنف لفظي و سخرية قاسية لنحطم صورة و نفسية “إنسان/شاب/رياضي” صدر عنه سلوك يستحق الانتقاد. بل الواجب هو التصحيح و الإصلاح و التوجيه و المواكبة، و إن اقتضى الأمر، إنزال العقوبات التي تفرضها القوانين والأنظمة المعمول بها.
شخصيا، أعتقد أننا لا نستحق الاحترام عندما نتفنن في انتقاد الآخرين، و نسارع إلى إصدار أحكام قيمة قطعية نهائية، قد تقضي على طموحات و أحلام أناس كثيرين لهم مؤهلات رائعة، إلا أنه لسوء حظهم وقعوا في الخطأ في بيئة مجتمعية يعتقد كثير ممن يسكنونها بأنهم ملائكة منزهون عن الزلل، و أن باقي البشر شياطين يستحقون الرجم لأتفه الأسباب، و التدمير الملي بلا شفقة و لا تسامح.
أما الجمهور فعليه أن يكون واعيا أن ما يستحق أن يوصف ب “شوهة رياضية”، ليس بالضرورة هو سلوك ملاكم أو عداء أو رياضي، كان مستواه التقني ضعيفا أو أخطأ هنا أو هناك، بل ربما لفظ “الشوهة” الرياضية لائق بأمور و حالات أخرى لا يراها الجمهور على شاشة التلفزة، فلا يوجه انتقاده نحو أصحابها كما ينتقد و يغضب من ملاكم انفعل و “عض” منافسه على الهواء مباشرة، أو عداء سقط أرضا عند حاجز معين.
بشكل عام، يحتاج منا شباب الوطن، أن نستمع إليهم جيدا، و أن نواكبهم باحترام و إنسانية و مودة، و أن نحل معهم عوائق كثيرة تمنعهم من الانطلاق. لذا، كفى من القسوة أيها “المتفرجون” و “المعلقون” و “المتتبعون”، فالحياة لا تحتمل كل هذه الطاقة السلبية التي نتقن إنتاجها لندمر طموحات بعضنا البعض، و نؤذي كثيرا من الشباب الذين لا ذنب لهم سوى أنهم سقطوا مرة أو مرتين، و عوض أن نكون إلى جانبهم و نمد أيدينا إليهم، كي نعينهم على التصحيح و التصويب، نقيم على شرفهم “حفلة الرجم” عند أول كبوة، و ندفنهم رمزيا حتى تموت معنوياتهم و يزول لديهم أي أمل في النهوض مجددا.
أتمنى بصدق، أن يسترجع الملاكم المغربي يونس باعلا، هدوءه و ثقته في نفسه، و أن يعود للتمارين لتطوير مستواه بشكل أكبر، كي يكمل مسيرته الرياضية لأنه يستحق ذلك، ولأن من هم وارءه من أصدقائه و من عائلته، ربما، يعيشون معه من أثر مجهوده و عائدات نجاحاته. فلندعمه، هو و كل الرياضيين و كل الشباب المغربي، حتى يكرروا المحاولات إلى أن يتحقق لهم النجاح الذي يحلمون به. و لنهتم بالتماس الرحمة و العفو لنا و لغيرنا، و ليكرس كل منا طاقته لإصلاح زلاته و أخطائه، فلنا من السلوكات غير اللائقة ما يكفي لننشغل في تصحيح ذواتنا و تقويم اعوجاجاتنا، و نكف عن رجم الآخرين بقسوة المتعالين.