قراءات رمضانية.. التوظيف الإسلاموي للحقبة النبوية لاعتبارات إيديولوجية
منتصر حمادة
ضيف هذا العرض كتاب للإعلامي الإسلاموي وضاح خنفر، المدير السابق لشبكة “الجزيرة”، صاحب كتاب يحمل عنوان “في ضيافة النبي”. صدر الكتاب في 2021، وجاء موزعاً على مقدمة بعنوان “الصراع حول الإسلام.. بوادر انبعاث جديد؟”، وخمسة فصول جاءت عناوينها كالتالي: «الانقلاب الاستراتيجي».. كيف صنع الإسلام أوربا؟؛ ماذا يقول لنا رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الزمن؟؛ عندما يكون التفاؤل منهج عمل!؛ كيف رأي النبي العالم في زمنه؛ النبي القائد والنبي الإنسان، وجاء العمل في 157 صفحة من الحجم المتوسط.
ولكن قبل الخوض في بعض مضامين الكتاب، مهم التذكير بمسار مؤلفه، وخاصة مساره الإيديولوجي، لأنه مؤثر في تحرير تلك المضامين التي كانت اختزالية، حيث درس بداية في جنوب أفريقيا، فقد كان هناك يدير تنمية الموارد البشرية للاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، وهي منظمة يرى البعض أنها كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتنظيم الدولي للإخوان، بل كانت أحد أذرعه في القارة السمراء، قبل أن يُصبح مراسل فضائية “الجزيرة” في جنوب أفريقيا، ثم انتقل إلى الهند مباشرة أحداث 11 سبتمبر 2001 لتغطية الحرب الأمريكية على أفغانستان طيلة خمسة أشهر.
ومباشرة بعد سقوط حركة طالبان وقصف مكتب “الجزيرة” في العاصمة الأفغانية كابول، انتقل خنفر للعمل كمراسل للفضائية في العراق، حيث قام بتغطية الحرب الأمريكية على العراق من الشمال العراقي، وانتقل إلى بغداد بعد سقوطها وأصبح مدير مكتب “الجزيرة” بالعراق، قبل تعيينه مديراً للقناة في عام 2003 وانتقل للدوحة حينها، وفي عام 2006 أصبح مديراً عاماً لشبكات “الجزيرة” التي تضم جميع المؤسسات والكيانات والقنوات التي تحمل اسم “الجزيرة”، حيث سيلاحظ أنه بعد تولي خنفر رئاسة المشروع، أصبح الارتباط بين أطراف مثلث الجزيرة وخنفر والإخوان جلياً، إذ أصبحت تغطية القناة تركز بشكل أكبر على معارضة ومناهضة الأنظمة العربية والتأثير على الرأي العام في المنطقة، وعموماً، تكفي العودة إلى أدوار الفضائية طيلة سنوات “الفوضى الخلاقة” لكي يأخذ القارئ فكرة عن طبيعة هذا المشروع، باعتباره أداة وظيفية كانت مكلفة بمهام معينة، ولا زالت كذلك، مع تحولات نسبية ليس هذا مقام الخوض فيها.
بعد إبعاده عن منظومة “الجزيرة”، أطلق وضاح خنفر مشروع “منتدى الشرق”، في منصات رقمية، وهو مشروع لا يخرج عن الأفق الديني الإيديولوجي الذي ينتمي إليه.
من يقرأ عنوان الكتاب، أي “في ضيافة النبي”، قد يتوهم أن الكتاب مُخصّص للتوقف عند معالم الشخصية النبوية الشريفة، من قبيل تعامله مع الأسرة والمجتمع والصحابة الكرام، أو تعامله مع مختلف الشرائح الاجتماعية، ضمن قضايا أخرى، إلا أن مضامين الكتاب تدور في فلك القراءة الإسلاموية للسيرة النبوية، وبالتحديد القراءة الإخوانية، حيث التركيز أولاً وأخيراً على البعد السياسي في شخصية النبي القائد، الزعيم السياسي، الفاعل الاستراتيجي.
ثمة إسقاطات معاصرة نزعم أنها غير سوية على أحداث ووقائع جرت في الحقبة النبوية، وهذا متوقع من المؤلف لعدة اعتبارات، منها الاعتبار الإيديولوجي الصرف، بحكم النهل من المشروع الإخواني، ومنها مضامين عمل سابق له، صدر في كتاب وفي حلقات مرئية خاصة بشهر رمضان، تحت عنوان “الربيع الأول” [كذا]، في إحالة على أحداث خاصة بالحقبة النبوية وما تلاها، مع الربط بين أحداث “الربيع العربي” [من خلال توظيف العنوان]، وإسقاطه على حقبة إسلامية مباركة، وهذه معضلة تلخص الشيء الكثير في الأفق السياسي الإيديولوجي والاختزالي لهذا الخطاب.
نقرأ في مقدمة الكتاب أن العمل يتزامن ومرور العالم من “لحظة انتقال عصيبة؛ فيها تخوض البشرية جائحة كورونا، وتعيش أزمة اقتصادية، وتشهد تغيراً استراتيجياً في موازين القوة بين الغرب والشرق، وما يرافقه من تدافع وتطاحن، وتصاعد خطاب اليمين المتطرف، وما يرافقه من خطاب كراهية يطال الإسلام ورموزه في دول أوربية”، مضيفاً أن “هذه اللحظة تمثل نهاية حقبة التسيد الغربي، فتتسارع هجرة الناس فيها صوب أفق جديد في المستقبل، أولى بوادر انبعاثه هي القلق المعرفي، لذلك بات ضرورياً أن نستنفر مخزوننا المعرفي وأن نتحرر من القيود التي كتبلنا بها عقولنا في أزمنة الضعف والعجز والخوف”، ويتطلب ذلك دق “باب المعلم الأول، باب خاتم النبيين ورسول الناس كافة، فنلتمس في ثنايا سيرته ما يعيننا على تصور کلجدید متبعين منهجه العابر للزمن والمتجاوز للوقائع. هذا الكتاب هو جولة في الواقع وفي المنهج: الواقع الذي أوصلنا إلى هذه اللحظة التاريخية، والمنهج الذي قدمه لنا آخر رسل السماء إلى الأرض”.
والحال أن نتائج هذه العملية لم تخرج كما سلف الذكر عن تمرير قراءة إخوانية إيديولوجية للسيرة النبوية العطرة، ونتوقف عند بعض الأمثلة في هذا السياق:
ــ نقرأ في الصفحة 30 أن “أوربا اليوم ضعيفة ومرتبكة، أنا أقول لكم عندما تضعف أوربا تتنمر، وتصبح أكثر خطورة، وهذا نستطيع أن نجده في كل المراحل التاريخية، الضعف الأوربي الاقتصادي والسياسي وحالة التفكك وخُروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وانتشار اليمين المتطرف في أوربا والهجرة والمزايدات بين ماكرون وبين ليبان في فرنسا، كل هذا الصراع يؤدي عادة إلى العداء (للآخر)، والآخر اليوم هو المسلم”، وواضح أن هذا الخطاب لا يستحضر حضور ووزن مسلمي أوربا، وعددهم بالملايين (في فرنسا لوحدها، العدد يقارب سبعة ملايين مسلم)، كما أن الخطاب نفسه يساهم في تغذية أجواء الاحتقان والصدام بين المسلمين والدول الأوربية، بينما المطلوب الانتصار للمشترك الإنساني، عوض تمرير خطابات دينية تنهل من مرجعية إيديولوجية.
في الصفحة 23 نقرأ أن “الاستهداف الحالي هو ليس في الحقيقة ضد القاعدة وداعش كما كان في السابق، هو استهداف ضد الرموز الدينية الإسلامية”، ومن ذلك، الانتقال “من استهداف الأقلية إلى استهداف الجميع”، معتبراً أن الأوربيين “ارتكبوا حماقة لإرضاء المتطلبات الداخلية المتناقضة في أوربا وبالتحديد في فرنسا في هذه الحالة وفي دول أخرى، ولكن هم في الحقيقة خرجوا من استهداف الأقلية إلى استهداف الجميع، أي جميع المسلمين، لأن رمزية النبي عليه الصلاة والسلام لا يختلف عليها مسلم، إنما يختلف عليها من يسَمَوْنَ بالمُعتدلين وفق المعايير الغربية، الذين سَيسارعون دائماً التبرير للغرب أية فِعلة لأَسباب تعرفونها، إذن نقلوا المعركة من استهداف الأقلية إلى استهداف الجميع، وهذا برأيي محفز للعالم الإسلامي”.
واضح أن هذا الرأي يتقاطع طولاً وعرضاً مع الطرح الإسلاموي في الساحة الأوربية، وهو طرح يوجد ضمن الأسباب التي تقف، في الساحة الفرنسية مثلاً، وراء خطاب “الانعزالية الإسلاموية” بتعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي تطرق للمعضلة الإسلاموية بالتحديد، وليس لواقع الجالية المسلمة، وواضح أيضاً أن مثل هذا الخطاب كان غائباً كلياً مع الأجيال الأولى للجاليات العربية والأمازيغية المسلمة في فرنسا ودول أوربا الغربية، ولكن ارتفاع أسهم الإسلاموية، ساهم في بزوغ الخطاب، بالصيغة التي نعاينها في مضامين هذا الكتاب.
ــ نقرأ في الصفحة 52 أن المصطفى عليه الصلاة والسلام، كان يتفاعل “مع الواقع على كرسي التنفيذ، وهنا يأتي أمتع ما في دراسة الأبعاد الإستراتيجية في السيرة النبوية حقيقةً، لأنك تستطيع أن تتوقع كيف يتصرف القائد العادي، وتستطيع أن تتوقع كيف يتصرف السياسي العادي، لكنك الآن أمام نموذجٍ جديد ومختلف عن النماذج الأخرى! ولكنه في نفس الوقت قائد هو الآخر، يتفاعل مع نفس المكونات التي يتفاعل معها الآخرون؛ يتفاعل مع تحالفات وإئتلافات وأعداء، يتصارع ويتصالح معهم ويدرك موازين القوة والإطار الدولي ويعرف منظومة القبائل، ويعرف القوي والضعيف، ويعرف أخلاق الناس ويعرف المرحلية والأولويات!”، مضيفاً في مقام آخر أن “من السمات المميزة للنبي عليه الصلاة والسلام، في المدينة، كان لديه جهاز لجمع وتحليل المعلومات، أبو بكر – رضي الله عنه – كان بمثابة مستشار الأمن القومي [كذا]، خبير في كل يما يتعلق بشؤون القبائل وأعدادها وأهميتها والأنساب، هذا بالإضافة إلى الأخبار التي يأتي بها العيون من كل قبائل العرب”، أو كما نقرأ في الصفحة 95، أنه “عندما نقول أنه استراتيجي لا نقصد أنه استراتيجي بمعايير ذلك الزمن أو بمعايير زماننا بل بمعايير جديدة اشتقها واستقاها من الأصل وهو الرسالة، وهذه نقطة في غاية الأهمية للذين يدرسون الدراسات المتعلقة باستراتيجيات النبي -عليه الصلاة والسلام- أو بالمبادئ التي زرعها في الاقتصاد أو التي زرعها في الإدارة أو ما إلى ذلك”.
هذا غيض من فيض الخطاب الديني الإيديولوجي الذي لا يجد أي حرج في توظيف المقام النبوي الشريف، لأغراض سياسية، على غرار ما قام به المشروع الذي ينتمي إليه مؤلف الكتاب خلال العقود الأخيرة، مع أنه كان ولا زال أداة وظيفية.