أزمة سقف الدين.. مبارزة سياسية جديدة بين الجمهوريين والديمقراطيين تحبس أنفاس الاقتصاد الأمريكي
بتاريخ 19 يناير الماضي، بلغت الولايات المتحدة الأجل المحدد لرفع سقف الديون، دون أن يتوصل الكونغرس إلى اتفاق لرفعه مجددا، لتلجأ الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ “إجراءات استثنائية” بهدف تجنب التخلف عن السداد.
فكيف تؤثر أزمة سقف الدين الأمريكي على أكبر اقتصاد في العالم، وكيف نشأت الأزمة على خلفية الصراع القائم بين جمهوريين وديمقراطيين يتجاذبون السيطرة على غرفتي الكونغرس، مما يرهن مصير الاقتصاد الأمريكي والعالمي على حد سواء؟
يعد سقف الدين، وهو أكبر مبلغ مالي يمكن للحكومة اقتراضه بهدف تأمين الإنفاق الحكومي، قيدا قانونيا أقره الكونغرس، لأول مرة، في سنة 1917، وتم تحديد هذا السقف، لآخر مرة، في دجنبر 2021 عند 31 تريليون و400 مليار دولار.
هذا الإجراء يمكن وزارة الخزانة الأمريكية من إصدار سندات الدين، دون الحاجة إلى الرجوع للكونغرس حين يتعلق الأمر بالاستدانة. وبمجرد بلوغ الحكومة الفدرالية الحد الأقصى للاقتراض، يصبح من الواجب على الكونغرس التصويت من أجل رفع هذا السقف، لتمكين الأجهزة الحكومية من تأمين موارد الإنفاق المالي الضرورية.
وتعيد هذه الأزمة التذكير بالمعركة الشرسة بشأن سقف الدين، شهدتها الولايات المتحدة في سنة 2011، ترتب عنها خفض التصنيف الائتماني للبلاد وإجبارها على تقليص الإنفاق لسنوات عدة.
هذا المأزق كان حاضرا بثقله خلال إلقاء الرئيس بايدن لخطاب حالة الاتحاد أمام أعضاء الكونغرس، إذ دعا، مجددا، إلى التعاون بين الجمهوريين والديمقراطيين للتوصل إلى حل.
وفي أحدث توقعاته الصادرة الأربعاء، حذر مكتب الميزانية بالكونغرس، الهيئة غير الحزبية، من أن الولايات المتحدة قد تكون في حالة تخلف عن السداد في يوليوز، إذا لم يتم رفع سقف الديون، لافتا إلى العواقب الاقتصادية الوخيمة المترتبة عن هذا الوضع.
في غضون 25 سنة الماضية، صوت الكونغرس أزيد من 12 مرة لرفع سقف الدين، ثلاث منها كانت خلال ولاية الرئيس الجمهوري السابق، دونالد ترامب.
مبدئيا، يكون إقرار رفع سقف الدين بمثابة إجراء اعتيادي في حال كان الحزب الحاكم يتمتع بالأغلبية في مجلسي الكونغرس.
غير أن الصراعات التي باتت تقسم الكونغرس الأمريكي، تهدد هذا الإجراء الاعتيادي، وذلك منذ أن أفرزت نتائج اقتراع التجديد النصفي خريطة سياسية مجزأة، منحت أغلبية مجلس النواب للجمهوريين الذين يعارضون رفع سقف الدين، فيما حافظ الديمقراطيون على أغلبيتهم في مجلس الشيوخ.
ورغم الترقب الكبير لمخرجات اجتماع الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، برئيس مجلس النواب الجديد، كيفن مكارثي، بشأن هذه القضية الشائكة، إلا أن اللقاء لم يسفر عن نتائج، رغم أجواء التفاؤل التي طبعته.
إذ يسعى مكارثي إلى الوفاء بوعوده لمتشددي الحزب الجمهوري، الذين عرقلوا عملية انتخابه وفرضوا عددا من الشروط، وذلك من خلال إدخال تعديلات لتقليص ميزانية الإنفاق الحكومي في مقابل رفع سقف الديون.
ففي الوقت الذي يصر فيه الجمهوريون على ضرورة التوصل إلى اتفاق لتقليص الإنفاق الحكومي مقابل التصويت على رفع حد الاقتراض، تشدد إدارة الرئيس الديمقراطي على أنه “لا تفاوض بشأن حد الديون”، حيث جدد دعوته بايدن للكونغرس لرفع هذا السقف دون شروط.
من جانبه، كان مكارثي أكد في وقت سابق رغبته في إيجاد “طريقة معقولة ومسؤولة يمكننا من خلالها رفع سقف الديون مع السيطرة على هذا الإنفاق الجامح”.
تقنيا، لا يمتلك الجمهوريون في مجلس النواب الكثير من السبل لإقرار تغييرات بشأن خفض الإنفاق الحكومي، خاصة ما يتعلق بالرعاية الصحية الرئيسية، ليشهروا بذلك ورقة الضغط المتاحة أمامهم: محاربة سقف الديون.
يعتبر النائب الجمهوري المحافظ عن ولاية جورجيا، باري لودرميلك، أن الإنفاق الإلزامي، من قبيل “ميديك إيد” و”ميديكير”، يمثل السبب الرئيسي وراء الدين القومي. غير أن العديد من الجمهوريين لا يرون ضرورة إدراج الرعاية الصحية الرئيسية ضمن النقاش بشأن سقف الدين.
من جانبه، يؤكد زعيم الأغلبية الديمقراطية عن ولاية نيويورك، في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، أن “استراتيجية حافة الهاوية السياسية مع حد الدين ستكون ضربة جسيمة للاقتصادات المحلية والعائلات الأمريكية”.
يشير خبراء اقتصاديون إلى أن الحكومة الأمريكية أنفقت، وطيلة عامين من فترة جائحة كوفيد-19، أكثر مما أنفقته خلال ثلاث سنوات، في أي وقت مضى. وعلى الرغم من انتهائها منذ أكثر من سنة، إلا أن الإنفاق التقديري غير الدفاعي المعدل حسب التضخم في عام 2023 يظل أعلى بمقدار 155 مليار دولار عن فترة ما قبل مارس 2020، فيما انخفض الإنفاق الدفاعي الفعلي بمقدار ست مليارات دولار.
ويلقي الجمهوريون باللوم على خطة بايدن للإنقاذ (1.9 تريليون دولار)، إلى جانب باقي قنوات الإنفاق الحكومي، باعتبارهما السببين الرئيسيين القابعين وراء التضخم.
“في حال التخلف عن السداد، “سنواجه أزمة مالية”. وأعتقد أنه سيكون لدينا ركود في الولايات المتحدة”، هكذا عبرت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، عن قلقها، محذرة من “كارثة” يتجاوز تأثيرها حدود البلاد، ومن عدم توفر الوزارة على “أنظمة” لتحديد أولويات مدفوعات الديون.
وتؤكد المسؤولة الفدرالية أن الوضع “سيقوض دون شك دور الدولار بوصفه عملة احتياطية يتم تداولها في المعاملات في كافة أنحاء العالم”، في وضع يمكن أن يزعزع أسس السوق العالمية والأنظمة المالية.
مؤخرا، ولتجاوز هذا المأزق السياسي الذي يلقي بظلاله القاتمة على الوضع الاقتصادي لأكبر قوة في العالم تواجه أصلا شبح الركود في ظل التضخم الأعلى منذ أربعة عقود، أعلنت يلين، التي وجهت رسالة إلى الكونغرس لحثه على رفع سقف الدين، عن اتخاذ “إجراءات استثنائية”، من شأنها التخفيف من حجم الديون المستحقة الخاضعة للسقف، المحدد حاليا عند 31.4 تريليون دولار. بيد أن هذه الإجراءات تظل قصيرة الأمد، ويمتد أجلها لغاية يونيو المقبل.
عمليا، تتمثل هذه “الإجراءات الاستثنائية”، على الخصوص، في إقدام وزارة الخزانة على تعليق الإنفاق على البرامج طويلة الأجل لموظفي الحكومة، ووقف الاستثمارات في صندوق التقاعد والعجز للخدمة المدنية، وصندوق الامتيازات الصحية للمتقاعدين من خدمات البريد، وأيضا صندوق الاستثمار في الأوراق المالية الحكومية، وذلك إلى حين رفع سقف الدين.
وبرأي محللين اقتصاديين، فإن توقعات يلين المالية القاتمة تندرج في سياق محاولة إدارة بايدن الضغط السياسي على الأغلبية الجديدة في الحزب الجمهوري في مجلس النواب، لرفع سقف الديون دون تأخير أو تردد.
في حال التوصل إلى إقرار رفع سقف الديون، ستتلقى الحكومة الفدرالية الضوء الأخضر للاقتراض الذي يمكنها من الوفاء بالتزاماتها القانونية، المتمثلة على الخصوص في امتيازات الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، ودفع الرواتب العسكرية.
وفي انتظار التوصل إلى اتفاق سياسي بشأن أزمة سقف الدين، تأخذ المفاوضات مجراها في ظل انقسام المشهد السياسي في الولايات المتحدة، والمرشح للمزيد من التصعيد بشأن العديد من القضايا الخلافية، التي تلوح في أفق الانتخابات الرئاسية المقرر تنظيمها السنة المقبلة.
الدار: و م ع