كلمة رئيس الحكومة عزيز أخنوش جلسة المساءلة الشهرية بمجلس النواب
حول موضوع: “الرؤية الحكومية لإرساء منظومة وطنية للسيادة الغذائية”
السيد رئيس مجلس النواب المحترم؛
السيدات والسادة النواب المحترمون؛
أتشرف بالحضور لأشغال هذه الجلسة الدستورية الشهرية لتقديم جواب الحكومة على أسئلة السيدات والسادة أعضاء مجلس النواب حول موضوع “الرؤية الحكومية لإرساء منظومة وطنية للسيادة الغذائية”.
وهو الموضوع الذي يكتسي أهمية بالغة، بالنظر لارتباطه بشكل خاص بدينامية التحولات والمتغيرات الكبرى التي تشهدها الساحة الوطنية والدولية.
وكما لا يخفى عليكم، فإن رغبتنا الجماعية للاستجابة للتطلعات والانتظارات الآنية للمغاربة، هو الأساس الذي يشكل عمق هذه التجربة الحكومية، التي تتطلع دوما لبناء صرح مؤسساتي متين ومتشبع بقيم توسيع الحقوق ذات الطابع الاجتماعي.
ولذلك، فنحن مدعوون أكثر من أي وقت مضى، لحشد مزيد من الجهود، لإنجاح ” ورش الدولة الاجتماعية “، الذي يرعاه جلالة الملك نصره الله، باعتبار هذا الورش مقاربة ضامنة للعدالة الاجتماعية والمجالية.
والمؤكد أن تحقيق هذه الغاية يفرض علينا التوجه نحو معالجة القطاعات ذات الأولوية، وهو ما يفرض علينا تعزيز الصمود في وجه التقلبات الطارئة، ووضع الأزمات الراهنة في سياقها الحقيقي، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم التحولات الهيكلية على المستوى الدولي.
حضرات السيدات والسادة،
إن بلوغ مغرب الكرامة والتماسك الاجتماعي، ليس رهانا مستحيلا أمام عبقرية المواطن المغربي المتشبع بالروح الوطنية العالية، بل على العكس من ذلك، فالنموذج المغربي للإصلاح لطالما شكل استثناء يحتذى به على المستويين الإقليمي والدولي.
وبعيدا عن الخطابات السياسوية والسطحية، لابد من الانتباه إلى أن التحولات التي يعرفها المنتظم الدولي تؤشر على مزيد من التحديات يصعب التنبؤ بمستوياتها ويتعذر التحكم في حركيتها. خاصة أمام تسابق مختلف دول العالم، بعد الأزمة الصحية، للحصول على الموارد لتحصين سيادتها الوطنية.
إن الوعي بهذه الإشكالات الصعبة في سياقنا الوطني، يمثل بالنسبة للحكومة فرصة مواتية لتعبئة المؤهلات الوطنية وحسن استثمارها لمواجهة الظرفية، وتحسين قدرة الاقتصاد الوطني على الصمود أمام الصدمات الخارجية.
وفي هذا الإطار، سبق لجلالة الملك في خطابه السامي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية لسنة 2022 – 2021، أن أكد بأنه ” قد أبانت الأزمة الوبائية عن عودة قضايا السيادة للواجهة، والتسابق من أجل تحصينها، في مختلف أبعادها، الصحية والطاقية، والصناعية والغذائية، وغيرها..” انتهى كلام صاحب الجلالة.
وهي رؤية ملكية سديدة ستمكن بلا شك من حماية اقتصاد المملكة والتقليل من تبعيته للخارج، وتحصينه من المخاطر المتعلقة بالاضطرابات المحتملة لسلاسل التموين في الأسواق العالمية، وتأمين سيادتنا الوطنية الغذائية.
حضرات السيدات والسادة النواب المحترمون،
استحضارا لتعليمات جلالته، فإن الاهتمام بالأمن الاستراتيجي الغذائي في السياق الدولي الحالي، أصبح يشكل أحد أهم الرهانات الحكومية، وعيا منا بالتهديدات التي أصبحت تهدد سلامة المنظومات الغذائية العالمية.
فقد خلفت حدة التوترات الجيو-استراتيجية والصراعات الإقليمية، فضلا عن تداعيات الجائحة انهيارا واسعا للأنشطة الاقتصادية واختلالا في سلاسل القيمة العالمية.
مما أدى إلى اتساع رقعة التضخم الغذائي بسبب التقييد المفرط لمجموعة من الدول على الصادرات من الزيوت والقمح والسكر. وهو ما يزداد تفاقما بفعل المكانة التي يحتلها طرفا الصراع الروسي – الأوكراني في سوق الحبوب العالمي، حيث تبلغ مساهمتهما حوالي 50 % من برنامج الغذاء العالمي المتعلق بالحبوب.
وباعتبار المملكة ليست بمعزل عن مختلف هذه الإشكاليات الدولية المعقدة، فإن انعكاساتها وما صاحبها من ضغوطات تضخمية وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية والغذائية، وتعطيل سلاسل الإمداد العالمي. ألقت بظلالها على وضعية الاقتصاد الوطني، الأمر الذي ترتبت عنه تكاليف إضافية بالنسبة لميزانية الدولة.
حضرات السيدات والسادة،
على الرغم من هذه التحديات الظرفية الصعبة، تعمل الحكومة تحت القيادة المتبصرة لجلالة الملك، على إرساء لبنات منظومة غذائية مستدامة مبنية على فلاحة عصرية ذات قيمة مضافة عالية لتحقيق السيادة الغذائية المنشودة.
وهنا تجدر الإشارة، إلى أن المملكة المغربية ظلت حريصة منذ فجر الاستقلال على إيلاء العناية اللازمة لرهان الأمن الغذائي، من خلال إقرار سياسات عمومية ومخططات فلاحية تعنى بتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي.
حيث استطاعت بلادنا ولله الحمد التأسيس لنموذج فلاحي مبتكر، مزود باختيارات استراتيجية بعيدة المدى لتطوير الإنتاج الغذائي وتعزيز مناعة القطاع الفلاحي وصموده في وجه التقلبات.
وفي هذا الإطار، شكل مخطط المغرب الأخضر الذي أعطى انطلاقته صاحب الجلالة الملك محمد السادس في أبريل 2008، رؤية ملكية للاستجابة للتحديات الكبرى للقطاع الفلاحي، وبرنامجا طموحا لجعل هذا القطاع المحرك الأساسي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لبلادنا، وخاصة بالعالم القروي.
وبعد مرور أزيد من 10 سنوات على إطلاق مخطط المغرب الأخضر، يمكن أن نسجل بارتياح كبير أن حجم منجزاته بلغت الطموح المسطر وحققت الأهداف المنتظرة منه، لاسيما فيما يتعلق بتحقيق الأمن الغذائي للمغاربة.
حيث ساهم المخطط في الاستغلال الكامل لإمكانيات المغرب الفلاحية ومضاعفة الناتج الداخلي الخام الفلاحي ليتجاوز سقف 127 مليار درهم سنة 2021، ومضاعفة الصادرات ثلاث مرات، مع تمكنه من خلق أزيد من 50 مليون يوم عمل إضافي بنسبة تشغيل بلغت 75 % في الوسط القروي، مما ساهم في تحسين متوسط الدخل الفلاحي بالعالم القروي بنسبة 66 .% كل ذلك من خلال تعبئة استثمارات إجمالية قاربت 160 مليار درهم، تشكل منها الاستثمارات الخاصة أزيد من 60 .%
مع اتخاذ مجموعة من التدابير الرئيسية لتنمية سلاسل الإنتاج وضمان استدامتها، خاصة تلك التي يتمتع فيها المغرب بامتيازات تنافسية، عبر:
– مضاعفة المساحات المسقية بالري بالتنقيط 4 مرات؛
– وغرس أزيد من 590.000 هكتار بالأشجار المثمرة؛
– والحد من الأمراض النباتية والحيوانية وتقوية المراقبة المستمرة لصحة الثروة الحيوانية؛
– فضلا عن إعداد استراتيجيات خاصة للمناطق الهشة، كالبرنامج الموجه لتنمية المناطق الواحية وشجر الأركان، ووضع البرنامج الوطني لتنمية المراعي بهدف الإدارة المستدامة للموارد الرعوية.
وهي العوامل التي أدت في مجملها إلى تحقيق النشاط الفلاحي نتائج جد إيجابية خلال الفترة 2008 – 2020، ومنها :
– مضاعفة مساهمة القطاع الفلاحي في نسب النمو الاقتصادي؛
– والتقليص من تقلبات النمو الفلاحي والحد من ارتباطه بالمتغيرات الموسمية والمناخية؛
كما نفتخر بكون بلادنا بلغت نسبة تغطية وطنية للحاجيات الاستهلاكية الأساسية من اللحوم الحمراء والدواجن والبيض والخضر والفواكه والحليب تتراوح ما بين %98 و100%، مسجلة بذلك مؤشرات هي الأعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
هذا، بالإضافة إلى الرفع من نسبة تغطية الحاجيات المتزايدة من الحبوب والسكر والزيوت.
وقد أثمرت المجهودات المبذولة تقليص عجز الميزان التجاري الفلاحي، حيث انتقلت تغطية الواردات بالصادرات الفلاحية من 49 % سنة 2008، إلى 65 % سنة 2020.
كما سجلت بلادنا خلال الفترة من 2008 إلى 2020، استقرار مؤشر أسعار استهلاك المواد الغذائية في 0,2 % مقابل 1,7 % كمعدل عالمي لهذا المؤشر.
حضرات السيدات والسادة،
لابد هنا من التأكيد على كون هذه الإنجازات المذكورة كان لها الفضل الكبير خلال أوج الأزمة الصحية، إذ مكنت الطاقة الإنتاجية للقطاع الفلاحي الوطني من تأمين السيادة الغذائية للمملكة وتموين السوق الداخلي بمختلف المنتوجات الغذائية الأساسية بشكل مستقر وآمن.
وهو ما يدعونا إلى الافتخار جميعا بنجاعة الاختيارات التي تبنتها المملكة، لتعزيز أمنها وسيادتها الغذائية، ويعكس المناعة التي اكتسبتها الفلاحة الوطنية من خلال استكمال إنجاز مخطط المغرب الأخضر.
وبالتالي، فالحفاظ على هذه الوتيرة التصاعدية من التقدم المحقق في القطاع الفلاحي، يتطلب تعزيز المكتسبات بشكل مدروس ومبرمج، والابتعاد عن المزاجيات التي تتعاطى بإيديولوجية مفرطة مع الموضوع.
لأن استدامة الفلاحة الوطنية وتثمين مكتسباتها يستدعي نهج مقاربة مندمجة تنطلق أساسا من مقوماتنا ومواردنا الطبيعية الحقيقية، وتتجاوز التحديات والمخاطر المطروحة.
وهو ما تلتزم الحكومة بمواصلته من خلال المحاور المكونة لاستراتيجية الجيل الأخضر، التي تهدف في أفق سنة 2030، إلى ترسيخ سياسة فلاحية مستدامة وتنفيذها بطريقة مسؤولة وتشاركية وشاملة.
حيث تتمثل عناصر الانتقال الرئيسية لاستراتيجية الجيل الأخضر، في الرفع من الإنتاج الفلاحي لمواكبة تطورات الاستهلاك الداخلي وتكريس التحول نحو منظومة غذائية مستدامة، عبر مضاعفة الناتج الداخلي الخام الفلاحي، والعمل على بلوغ 70 % من تثمين الإنتاج الفلاحي.
واستنادا إلى الإرادة الملكية السامية كمنطلق استراتيجي للنهوض بأوضاع العالم القروي ببلادنا، فقد حرصت عنايته السامية في أكثر من مناسبة على الرفع من منسوب التنمية البشرية والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية.
فقد أضحى تأهيل الرأسمال البشري عنصرا محوريا تقوم عليه استراتيجية الجيل الأخضر، كرافعة ستساهم في خلق مزيد من مناصب الشغل. كما مكنت استراتيجية الجيل الأخضر من إضافة زراعات جديدة كالخروب والصبار والأركان.
إن هذا التراكم النوعي للقطاع الفلاحي، لا يمكنه أن يخلو من بعض الفترات الاستثنائية والعابرة التي تعرفها بلادنا، والتي أثرت بشكل مباشر على إنتاجية المحاصيل الزراعية، وبالتالي على منظومة أسعار المنتجات الفلاحية، ويمكن حصرها في:
▪ انعكاسات الأزمة الصحية: والتي أثرت بشكل مباشر على التوازن في القطاع الحيواني، مما انعكس سلبا على سلسلة اللحوم الحمراء والحليب.
▪ الجفاف والتقلبات المناخية: حيث يعد جفاف سنة 2022 الأقوى من نوعه منذ 4 عقود، تعيد إلى الأذهان سنتي 1995 و1981، والتي بسببهما خضع المغرب لبرنامج التقويم الهيكلي، وصدور تقرير البنك الدولي الذي أسماه جلالة الملك آنذاك بالسكتة القلبية. اليوم هناك فعلا تضخم مستورد لكن ليست هناك سكتة قلبية.
فبدل الانتقاد وجب استحضار 10 أو 12 سنة الأخيرة التي غاب فيها التضخم، وكانت المنتوجات الفلاحية واللحوم موجودة، واليوم وفي ظل إشكالية الجفاف، فقد حدث اضطراب في سلسلة اللحوم الحمراء، التي تحتاج على سنتين لاستعادة توازنها، فليس نهاية العالم أن تقوم الحكومة باستيراد 28 رأس من الأبقار من أصل 3 ملايين من القطيع، وتصوير الأمر على أن المغرب بدأ في الاستيراد ولم يعد بلدا فلاحيا.
فبلغة الواقع، ومع غياب الأمطار والمراعي طيلة 4 سنوات، من الصعب أن تعطي الأبقار معدلا عاليا من الحليب وبجودة عاليا، إضافة إلى أن أوزانها لن تكون في مستوى التطلعات.
ولنا بإذن الله عودة للحديث عن السيادة الغذائية، والسياسة الحكومية لتحقيق الأمن الغذائي، وما تعتزم الحكومة القيام به في الشهور والسنوات القادمة، لتبقى الفلاحة قاطرة اقتصادية، لاسيما وأن الناتج الفلاحي تضاعف مرتين، والصادرات الفلاحية تضاعفت ثلاثة إلى أربعة مرات.
وعلى ذكر الجفاف، فالسنة الأخيرة هي سنة فلاحية صعبة، لكننا نحاول عبر الاستثمارات التي ستقوم بها الدولة وبشكل موجه لتحقيق الإنتاجية. والحكومة لا تجد حرجا في التطرق لمختلف المشاكل التي تخص الفلاحة، وتقديم الأجوبة الصريحة.