غير مصنف

عبد الإله بن عرفة.. رائد الرواية العرفانية في المنطقة

د. منتصر حمادة

بعض المتتبعين يعرفون عبد الإله بنعرفة باعتباره خبيراً في منظمة "الإسيسكو"، وبعضهم يتعامل معه على أساس أنه باحث في باحث في اللسانيات والتصوف والفكر الإسلامي، ولكن هذه الوقفة الرمضانية مع بن عرفة تروم تسليط الضوء على مشروعه الإبداعي الذي يحمل عنوان "الرواية العرفانية"، وهو مشروع، على حد علمنا المتواضع، فريد من نوعه في المنطقة، إن لم يكن فريداً من نوعه في العالم الإسلامي (لا يمكننا الجزم بذلك، طالما لم نعاين الجديد في المجال الإسلامي الماليزي أو الفارسي أو التركي مثلاً)، ولكن مؤكد أننا إزاء مشروع فريد في المنطقة، حتى ن بعض المنابر الفكرية والثقافية، شرعت خلال السنوات الأخيرة في الانفتاح على المشروع والتعريف به، من قبيل نشر مجلة "ذوات" الرقمية ملفاً عن المشروع، أو نشر مجلة "أفكار" دراسة عن إحدى أعمال المشروع، في عدد يوليو 2018.

بل وصل إشعاع المشروع، إلى درجة صدور عمل جماعي حوله، عن "جمعية سلا المستقبل"، بعنوان"الرواية العرفانية في تجربة عبد الإله بن عرفة"، والعمل عبارة عن تجميع أعمال الندوة العلمية التي نظمتها الجمعية ذاتها بالخزانة الصبيحية بسلا يوم 23 أبريل 2012، وشارك فيها باحثون ونقاد جامعيون عُرفوا بجدية أبحاثهم ورصانة أعمالهم ودقة مقارباتهم، وهم: نجاة المريني ومحمد التهامي الحراق وأحمد زنيبر ومراد الريفي العلمي، بالإضافة إلى المحتفى بأعماله عبد الإله بن عرفة، ويوفر العمل للقارئ متعة مزدوجة بتعبير محمد التهامي الحراق: "متعة التعرف على عالم إبداعي عرفاني له الفرادة والتميز في فهم وممارسة الرواية والكتابة والأدب؛ ومتعة اختبار رؤى نقدية متنوعة في الاقتراب من تجربة ما تفتأ تصرح بضرورة الاقتراب المختلف منها لطبيعتها العرفانية والأدبية المخصوصة وعياً وممارسةً"؛ هذا دون الحديث عن الأطروحات الجامعية التي أصبحت تشتغل على المشروع، وخاصة في المشرق الأسيوي.

والعبور إلى الرواية العرفانية عند كاتبنا حسب ما تبدى للباحث حفيظ هرو، يستند إلى جسرين هما: أولاً: نورانية الأحرف القرآنية المقطعة المستمد منها المشروع، يقول الأستاذ عبد الإله: "ما يُميز هذه التجربة الروائية هي أنها تمتح أساساً من الأحرف النورانية المقطعة، والمشروع الروائي كلُّه قائم على استثمار ما تمنحه تلك الأحرف من دلالات تُفيض على الكتابة نوراً أخَّاذاً"، وهو ما وسمه المؤلف بـ"الكتابة بالنور"؛ ثانياً: الاستفادة من غنى تاريخ وآداب التصوف الإسلامي الثري: حقائق ورجال، والذي يمتح منه المشروع قيمه العرفانية وذلك بغرض "تكريس معايير أدبية كونية جديدة مناقضة لمعايير الكونية الغربية" القائمة على تمجيد المستقبل وتشييء العق،هذا بالإضافة إلى توظيف الخيال الخلاق باعتباره "أوسع حضرة للمعرفة" التي تُمكِّن الإنسان من إدراك الوجود المطلق والإدراك الحق. (جاء ذلك في دراسة للباحث، نشرت في مجلة "أفكار"، العدد 27، يوليوز 2018).

يكفي تأمل لائحة الأعمال الروائية التي صدرت حتى الآن: "رواية "جبل قاف" (2002)؛ "، رواية "بحر نون"، (2007)؛ رواية "بلاد صاد"، (2009)؛ رواية "الحواميم" (وتتطرق لمأساة طرد الموريسكيين من إسبانيا) (2010)؛ رواية "الطواسين" (2011)؛ رواية "ابن الخطيب في روضة طه" (2012)؛ رواية "جبل قاف" (في سياق التعريف بسيرة ابن العربي الحاتمي، (2013)؛ رواية "ياسين قلب الخلافة" (2013)؛ رواية "طوق سر المحبة" (وتروم التعريف بسيرة العشق عند ابن حزم) (2015)؛ رواية "الجنيد: ألم المعرفة" (2017)؛ وأخيراً، رواية "خناثة: ألر الرحمة" (بيروت 2018)، في انتظار تتمة السلسلة لأننا إزاء مشروع إبداعي ومعرفي، هذا دون الحديث عن مجموعة من الأعمال البحثية، لعل آخرها، "الديوان الكبير لابن العربي الحاتمي"، تحقيقاً ودراسةً وتعليقاً (2019)

لكل رواية من روايات ابن عرفة، تفسير معين، فمع رواية "جبل قاف" مثلاً، نحن "نرى هذا التجاور من جهة ونرى حرفاً ومعلماً لدخول الصغير في الكبير، والكبير في الصغير، فأمام الجغرافية بسياقها الدلالي المحدد بتوجه خاص ومنحى وتفسير معين"، كما أدلى بذلك في حوار أجري معه، ومع روايته "بحر نون"، نحن إزاء رحلة بين الزمان والمكان من الأندلس وما كان يتمخض فيها، وحول الأسطورة الأطلسية التي ذكرها أفلاطون في محاورته المشهورة. أما مع رواية "جبل قاف"، والمخصصة للإمام الأكبر، الذي شغل الناس قديماً وحديثاً، فإن سبب نزولها مرتبط برؤية شاهدها المؤلف، وشعر حينها أنه لا يكتب بل ينكتب مع هذا ابن عربي.

نأتي لرواية "وادي نون"، والذي كما هو معلوم، حكمته حينها ملكة شمال إفريقيا في القرن الرابع قبل الميلاد، ونون هو البحر والمحيط، والرواية اشتغال على هذه الملكة، مع استحضار شخصيات عدة في العمل الروائي العرفاني؛ أما في رواية "بلاد صاد" فهي عن أبو الحسن الشوشتري، الذي ولد في قرية قرب غرناطة، وكان شاعراً انطلق بالعلم والفكر والحضارة، وعن التقائه مع الفيلسوف ابن سبعين، ومن خلال الأحداث أظهرت الرواية منعرجاً وتغيراً في السلوك، وكشفت خيطاً ناظماً، وهو الخيط الروحاني، بتعبير المؤلف.

واضح أن تأليف هذه الأعمال الروائية لا يمكن أن يصدر بين ليلة وضحاها، لأنه يقتضي التفرغ البحثي أولاً، عبر قراءة المخطوطات والمراجع الكبرى، قبل العروج على تحرير المادة الخام، وبعدها التحرير النهائي.

بقيت إشارة أخيرة، وذات صلة بعنوان المشروع، لأنه يُحيل على مفهوم العرفان، وبالنتيجة يُحيل على مرجعية إسلامية، حيث

إن مفهوم أو قل مشروع "الرواية العرفانية" هنا لا علاقة له قط بما يُصطلح عليه "الأدب الإسلامي" الذي يندرج في سياق ظاهرة "أسلمة الأدب"، موازاة مع مشاريع الأسلمة، من قبيل "أسلمة المعرفة" أو "أسلمة الاقتصاد" وما إلى ذلك.

مشروع "الرواية العرفانية"، يروم إعادة الموروث الإسلامي، في شقه الروحي على الخصوص، لأنه تعرض إلى كثير تهميش أو اختزال خلال العقود الأخيرة، لاعتبارات عدة، منها ضرائب ظاهرة الأسلمة، مع فارق أن إعادة قراءة هذا الموروث، والتي تتم اليوم حتى على الصعيد الغربي، مع هذا الانفتاح الكبير على أعمال التصوف، وخاصة أعمال ابن عربي وجلال الدين الرومي والغزالي، تتم انطلاقاً من مداخل معرفية وجمالية ظلت مغيبة أو متواضعة التناول، بما يُفسر هذا الإقبال الكبير والمتصاعد على المشروع في المنطقة على الخصوص، وليس هذا بعزيز على باحث وأديب، يُصنف ضمن الفئة التي تروم الجمع بين الذكر والفكر والأدب، دون أي ادعاء أو مزايدة على العامة والخاصة، وهو الذي يُحذر من مُشكلة كُبرى مرّ منها اليوم، وتكمن في مأزق التشظّي، والذي يقتضي المواجهة والمكاشفة، عبر أداة الإيمان، الذي لا يستقيم، حسب ابن عرفة، إلا "مع العِلم، الإيمان هو التصديق، والتصديقُ يحتاجُ إلى علمٍ بهذا التصديق، ولهذا التصوُّف هو تجربة روحية وتجربة إيمانية. العرفان هو تجربة روحية ولكنه تجربة معرِفية وعلمية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة + ستة =

زر الذهاب إلى الأعلى