طوماس غينولي: محامي التعددية الثقافية في فرنسا
د. منتصر حمادة
هذا كتاب يستحق التنويه والاحتفال بشكل كبير، من قِبل المسلمين قبل غيرهم، وذلك لعدة اعتبارات، منها أنه يأخذ مسافة من أغلب القراءات البحثية والإعلامية والسياسية التي تتعلق بواقع الإسلام والمسلمين في فرنسا بالتحديد، بل يتضمن انتقادات علمية وجيهة إلى مُجمل هؤلاء، وبالأسماء، انطلاقاً من معطيات ميدانية، وبناءً على نتائج استطلاعات رأي وإحصاءات ومقابلات، وبالتالي، لا يتحدث المؤلف من فراغ.
نتحدث عن كتاب "الفوبيا الإسلامية: لماذا تشيطن فرنسا المسلمين؟"، لمؤلفه الباحث طوماس غينولي، وصدر في غضون 2018، عن دار "فايار"، وجاء في 285 صفحة من الحجم المتوسط، متضمناً مقدمة وخاتمة وعشرة فصول.
نادراً ما اطلعنا على كتاب يتناول واقع الإسلام والمسلمين في فرنسا بهذه الموضوعية، بعيداً عن السائد، سواء مع خطاب الشيطنة أو خطاب المجاملة والانتصار لمشروع إيديولوجي مُعين على حساب الآخر.
تضمن الكتاب ما يُشبه "التفصيل الأبجدي"، عبر التعريف بالإسلام، عقيدة وممارسة، من خلال تبسيط الشرح، بأسلوب واضح ومفصل ونوعي أيضاً، وهذا محور الفصل الأول من العمل (ص 25- ص 55).
في نقد المؤلف للباحثين مثلاً، لا يتردد طوماس غينولي في تخصيص فصل كامل لكي يناقش بشكل هادئ بعض أعمال الباحث الشهير جيل كيبل، ونتحدث عن الفصل الثالث وعنوانه "جيل كيبل والاختزال الإسلامي" (مستعملاً مقولة لاتينية في هذا الصدد)، مؤاخذاً عليه السقوط في خطاب التعميم والاختزال.
وفي نقد صناع القرار، كان الفصل الثاني (ص 57- ص 73) محور نقد الرئيس السابق للحكومة الفرنسية، إيمانويل فالس، وجاء الفصل بعنوان "حالة إيمانويل فالس"، مؤاخذاً عليه تقلباته في المواقف، بين فترة الشبيبة الحزبية التي كان يُساند فيها القضية الفلسطينية، ويشرف على توقيع اتفاقية توأمة بين ساكنة مخيم خان يونس الفلسطينية وبلدية إيفري الفرنسية، وبين مواقف مضادة صدرت عنه خلال الخمس سنوات الأخيرة، مع الإشارة إلى أن تاريخ هذا "الانقلاب" في المواقف، سيتضح ابتداءً من 2010، والإشارة أيضاً إلى أن جميع الاستشهادات والمواقف التي يتوقف عندها المؤلف بالتقييم والنقد، سواء لفالس أو كيبل أو للائحة عريضة من الساسة والباحثين والإعلامية، جاءت كلها موثقة في كتب أو مقالات أو خرجات إعلامية، ولا تخول صفحات العمل من هذه الإحالة من باب احترام الأمانة العلمية.
في معرض نقد مواقف وتصريحات فالس، توقف المؤلف مثلاً، عند ادعاء رئيس الحكومة السابق أن ما تمر منها فرنسا خلال السنين الأخيرة، (بسبب الاعتداءات التي تعرضت لها)، يندرج في سياق "صراع الحضارات"، كما صرّح بذلك يوم 28 يونيو 2015، لإذاعة "أوروبا 1"، بما تطلب من المؤلف الإحالة على أطروحة "صدام الحضارات" للراحل صامويل هنتنغتون، منتقداً بعض مضامين الأطروحة، ومستشهداً ببعض الأحداث التي مرت منها الساحة العالمية خلال العقود الأخيرة، والتي تصب في نقض هذه الادعاءات، من قبيل أجداث "تحالف حفر الباطن" بعد الغزو العراقي للكويت في صيف 1990، أو الصراع العسكري/ السياسي بين روسيا وجورجيا في 2008، مع أن الدولتان محسوبتان على "الكتلة [المسيحية] الأرثوذكسية" حسب الكاتب (ص 59).
في ثنايا الفضل الرابع المخصص لمفهوم/ موضوع "الجهاد" [وهو عنوان الفصل]، يقترح المؤلف، نموذجاً تفسيرياً يستحق النقاش بخصوص الأسباب التي تدفع شباب الجالية المسلمة هناك، للتورط في قضايا التطرف أو الانضمام للظاهرة "الجهادية"، فبعد نقده للتفاسير المروجة بحثياً وإعلامياً، أي التطرف المرتبط بالفقر المادي (ومنه الإقصاء الاجتماعي)، غياب التربية الدينية الوسطية، دور التديّن المتشدد (الإحالة خصوصاً هنا على السلفية الوهابية)، أو الشحن الطائفي، يترك المؤلف مُجمل هذه التفسيرات جانباً، بل ينتقدها ويُقزم من أهميتها ونوعيتها، انطلاقاً من وقائع ميدانية، وخلاصات تقارير بحثية، بما فيها تقارير أمنية، صادرة تارة عن وزارة الداخلية الفرنسية، أو بعض الأجهزة الأمنية هناك (وفي مقدمتها مديرية مراقبة التراب الوطني الفرنسي)، ليتقرح نموذجاً تفسيرياً قوامه ما اصطلح عليه بـ"الافتتان بالشر" [La fascination du mal]، ومغذياً هذا "المفتاح التفسيري" بما عاينته فرنسا مع انضمام شبيبة فرنسية في غضون 1944، ناهز عددها 7000 شاباً للتطوع ضمن الجيش النازي، عاقداً مقارنة بين منطق هذا الانضمام مع ما نعاينه لدى الشباب المسلم اليوم، الذي ينضم للظاهرة "الداعشية". (ص 97).
وأشار المؤلف في ثنايا هذا الفصل، إلى أنه يتقاطع في نموذجه التفسيري هذا، بشكل نسبي، مع أطروحة الباحث أوليفيه روا التي تتحدث عن "أسلمة التطرف"، ضداً في أطروحات جيل كيبل وباسكال بروكنيرولائحة من الباحثين.
الفصل الخامس من العمل (ص 115 ــ ص 143)، متعة معرفية، بمقتضى خوض المؤلف في مفهوم العَلمانية، وتطبيقاته في الساحة الفرنسية، والفوضى المفاهيمية المصاحبة له، وأيضاً بمقتضى نقض التناقضات بين التنظير للعلمانية وممارستها، من قبل ما اصطلح عليهم بـ"أشباه العَلمانيين"، ومن هنا عنوان الفصل الذي يتحدث عن مواجهة بين العَلمانية وما يُشبه العَلمانية.
سواء تعلق الأمر بالفصل السادس أو السابع، تتضح جلياً معالم إنصاف المؤلف لواقع الإسلام والمسلمين، من خلال اشتغاله على نقد أخلاق الحقد أو "نظرية الحقد" [عنوان الفصل السادس، ص 145-ص 165] السائدة لدى بعض النخب الفرنسية، ومعه كرة الثلج التي تكبر في الساحة الفرنسية بسبب الحقد ضد المسلمين [عنوان الفصل السابع، ص 167- ص 207]، وقد افتتح الفصل السابع بمقولة للروائي اللبناني ــ الفرنسي أمين معلوف، ينتقد من خلالها، تبادل الأدوار بين الإعلام والرأي العام على نشر الآراء والمواقف المُهيمنة على الساحة.
"الطابو الجزائري" (ص 209- ص 223)، هو عنوان الفصل الثامن من العمل، والإحالة هنا على الماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر، ودوره في تغذية حساسية الفرنسيين من الخوض في موضوع الإسلام بشكل عام، والإسلام العربي بشكل أدق، مع الحضور الكبير للجالية المغاربية (جالية المغرب الكبير).
في الفصل التاسع من العمل (ص 225 ــ ص 245)، يتوقف المؤلف ملياً عند بعض تأثيرات وتفاعلات الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي على المشهد الفرنسي، ودور الصراع في تغذية العقول السياسية والفكرية والإعلامية التي تُشيطن المسلمين، ويوجد في مقدمة هؤلاء، حسب المؤلف، آلان فلكنكروت والذي حظي بنقد صريح وواضح من المؤلف في عدة محطات.
"العلمنة ضد السَّعوَدة" هو عنوان الفصل العاشر والأخير من هذا العمل الهام (ص 247- ص 267)، وافتتحه بالتوقف عند بعض الصور النمطية المغلوطة التي يُروجها الإعلام الفرنسي حول المسلمين في فرنسا، وذات صلة مثلاً باختزال الإسلام فقط في العرب، أو التديّن الحركي في الغزو السلفي، وغيرها من المعطيات، وكان الفصل مناسبة لتوجيه بعض الانتقادات إلى المشروع السلفي السعودي، (ص 257- ص 262)، وفرصة أيضاً لطرح بدائل، تمر مثلاً عبر البوابة القانونية لمواجهة هذا الخطاب، في مقابل ترجمة ما أشار إليه في مقدمة العمل (ص 17 بالتحديد)، عندما اعتبر أن الإسلام إسلامات، منه الإسلام الوهابي السعودي، ومنه الإسلام المالكي المغربي.