غير مصنف

الاشتباك مع الإسلاموية.. تقييم الإسلاموية من باب علم النفس

د. منتصر حمادة

ثمة خصاص كبير في الساحة يطال الاشتغال على قراءة وتفسير ظاهرة الحركات الإسلامية (الدعوية والسياسية والقتالية) من منظور علم النفس، بينما نكاد نعاني التضخم في القراءات التي تنهل من العلوم السياسية والاجتماعية وغيرها، بل حتى في مجال فلسفة الدين، نعاين بعض القراءات.

هناك أسباب عديدة تفسر هذا التواضع الكبير في تناول الظاهرة من منظور علم النفس، منها سبب محوري، يهم واقع علم النفس في المغرب والمنطقة، ومعلوم أنه واقع لا زال في البدايات، بسبب السمعة السيئة المرتبطة بهذا العلم، والذي غالباً ما يتم اختزاله في أحد مؤسسيه، سيغموند فرويد، وبمقتضى المحافظة اللصيقة بالخطاب الديني السائد في المنطقة، ومن ذلك، اختزال أعمال فرويد في الجنس وما جاوره، ومحددات أخرى، من قبيل تواضع مؤشرات الرهان على مجتمعات المعرفة، فطبيعي أن يكون واقع علم النفس في المنطقة بالصيغة التي نعاينها اليوم. (علم النفس للتذكير لا يُختزل في فرويد ولا في جاك لاكان، وإنما في عدة مدارس واتجاهات، بما فيها اتجاهات متباينة في المدرسة ذاتها، من قبيل ما نعاينه مع المدرسة اللاكانية)

من بين الأسباب أيضاً، عدم التفطن إلى ما يمكن أن تقدمه لنا أدبيات علم النفس في معرض قراءة الظاهرة الإسلامية الحركية، واختزال ما يمكن أن يصدر عن هذا العلم في التعامل مع الحالات المرضية التي تهم فرداً ما، وليس حالات نفسية تهم ظاهرة مجتمعية، تنهل من إيديولوجية دينية.

في هذا السياق، يبرز إسم المحلل النفسي التونسي فتحي بن سلامة، والذي اشتهر في المنطقة من خلال كتابه الشهير عن "الإسلام والتحليل النفسي"، وهو الكتاب الذي أسال الكثير من المداد، لن يكون آخره، ما جاء في أحد أعمال طه عبد الرحمن، والذي حرّره ضده بعض الوقفات النقدية، من منظور المرجعية الصوفية، تحت إسم "النظرية الائتمانية"، وهي نظرية مؤسسة على مرجعية صوفية.

ما يهمنا هنا، الإحالة على مجموعة من الأعمال التي نزعم أنها يمكن أن تكون مفاتيح إضافية لقراءة الظاهرة من منظور علم النفس، ونذكر بضع عناوين متداولة، قبل التوقف عند تميز فتحي بن سلامة في الموضوع.
الإحالة هنا على "سيكولوجية الجماهير" لغوستاف لوبون، والذي ترجمه للعربية هاشم صالح، ومع أنه عمل صدر منذ قرن ونيف، ورغم بعض المؤاخذات النقدية عليه، أهمها موضوع النزوع العرقي في خطاب المؤلف، إلا أنه مفيد جداً في سياق قراءة الظاهرة المعنية.

نضيف أيضاً، أعمال مصطفى حجازي، وخاصة ثنائية "سيكولوجية الإنسان المقهور" و"سيكولوجية الإنسان المهدور"، والتي تكاد تلخص سيكولوجية شعوب المنطقة في تفاعلها مع أوضاع الأسرة والمجتمع.

ولا يمكن بالطبع، صرف النظر عن أعمال أحد علماء النفس في المنطقة، وإن كان مقيماً في فرنسا، والحديث عن مصطفى صفوان، ونضيف أيضاً عالم النفس المغربي جليل بناني، الذي لا زال ينتظر القليل أو الكثير من ثقافة الاعتراف، من باب الاحتفاء باجتهاداته في هذا المقام العلمي.

نأتي لكتاب فتحي بن سلامة، وصدر في الساحة الفرنسية، بعنوان "رغبة عارمة في التضحية، المسلم الأعلى"، عن دار النشر "لوسوي"، وجاء في 149 صفحة، والمؤلف للتذكير، محلل نفسي، أستاذ علم النفس العلاجي وعميد وحدة التكوين والبحث في علم النفس السريري والمرضي في جامعة باريس، دنيس ــ ديدرو. نشر أبحاثاً كثيرة عن التحليل النفسي السريري، وعن الإسلام وأوروبا في العصر الحالي، وأسهم في كتب جماعية عدة. [للمؤلف رأي يتطلب الكثير من النقاش، مفاده أن المنطقة تعج بما يُشبه التباين بين الشريعة والقانون الوضعي المكرس في الدساتير، مما يؤدي إلى سيادة نوع من الازدواجية بين الشريعة والقانون المدني، وينعكس بشكل سلبي في حياة جزء كبير من المسلمين، وهذا رأي، يُحيلنا على بعض خلاصات كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاق]

اجتهد الكاتب في الإجابة على أسئلة عديدة مرتبطة بالظاهرة الإسلامية الحركية بالتحديد، منها: كيف تعمل الرغبة في التضحية التي استحوذت على الشباب باسم الإسلام؟ ولماذا وكيف أخذت هذا المسار السيئ؟ 

يرى المؤلف أن الشباب الذين يطرقون باب العمليات الانتحارية (أو الاستشهادية حسب الأدبيات الإسلامية)، هدفهم البحث عن مقام الإنسان الخارق، على اعتبار أن الآخرة متأصلة في عقولهم من خلال خُطب الدعاة الذين يخترقون هاماتهم اللاواعية في لحظة تكون فيها الحدود بين الأنا واللاأنا، بين الواقعي وغير الواقعي، مشيراً في أحد حواراته إلى أن "تحليل الواقع الذاتي للظاهرة الداعشية لا يعني وصمها بالجنون والهذيان"، مذكراً بأن "الشأن النفسي ليس مصدراً محضاً، بل يتألف من السياق الاجتماعي والسياسي"، مضيفاً أن "المطلوب حاضراً هو الانكباب على إنجاز أركيولوجيا نفسانية للاوعي العربي ــ الإسلامي، لكي يتسنى لنا تشفير البُنى الرمزية والكشف عمّا تبطنه من أعراض وصدمات، تتمظهر عبر مسيرة عابرة للأجيال بأشكال متلونة بسياقات اجتماعية وسياسية".

مفهوم "المسلم الأعلى"، هو محور هذا الكتاب، وجاءت أولى إرهاصات المفهوم، كما نقرأ في ضمن تجربة المؤلف في العيادة، بمقاطعة السين سان دوني (ضواحي العاصمة الفرنسية)، حيث لاحظ خلال سنوات عديدة، كمحلل نفسي، ارتفاع "عذاب الندم" في "أن لا تكون مسلماً كما ينبغي"، مما يقود أشخاصاً لبناء إيمان ملتهب يطالب بمزيدٍ من الممارسات الدينية؛ بهدف تفادي ما يُسميه "وصمة العار"، ويقصد ابن سلامة بالمسلم الأعلى ذلك النزوع عند بعض المسلمين إلى شكل من أشكال المزايدة الدينيّة، حيث يتم إبراز فائض من التديّن؛ كي يصبح المسلم أكثر إسلاماً لجهة الالتزام المفرط بتطبيق الطقوس الدينية، ومن خلال حالة المسلم الأعلى يُماهي المسلم نفسه مع النبي والصحابة، فبالنسبة له الخير أخذ مكانه والوعد تحقق.

"المسلم الأعلى" هنا، تشخيص للحياة النفسية للمسلمين، مخصب بالخطاب الإسلامي الحركي، إضافة إلى أنه مسكون بحالة الشعور بالذنب والتضحية. "المسلم الأعلى" يريد أن يتلفظ دائماً باسم الله في العالم، ويدين الذين يخرجون عن دائرة الإيمانية المفرطة في التديّن عبر الوعد والوعيد، حيث يسمي ابن سلامة هؤلاء بـ"المكبرين" طالما أنهم لا يكفون عن التلفظ بالتكبير.
حسب مضامين عرض أنجزته الباحثة ريتا فرج في الكتاب، فالمؤلف لا يعتمد في تحليله على فهم السياقات النفسية والاجتماعية لأنموذج "المسلم الأعلى" فحسب، إذ إنه يضعنا أمام تمظهرات الحركات الإسلامية محبذاً استخدام "اختراع الإسلاموية" في أطرها التاريخية بغية درس الظاهرة بكليتها؛ وملاحظاً أن النظريات السياسية الحديثة التي طاولت الإسلام السياسي لم تدرك أنه مؤسس على "قوة الراديكالية الدينية" التي تتلاقى مع المقدس القديم بمساعدة التكنولوجيا الحديثة.
كما يستعين ابن سلامة بتقرير عضو مجلس الشيوخ الفرنسي والنائب الاشتراكي سباستيان بيتراسانتا الذي وضعه عام 2015 عن "الجهاديين" الفرنسيين الملتحقين بساحات المعارك في سوريا والعراق. وقد جاء تحت عنوان الاستئصال: أدوات القتال ضد الإرهاب"، حيث نقرأ في خلاصات التقرير، أن الراديكالية لا تختص بالطبقة الشعبية القاطنة في الضواحي الفرنسية فحسب، فبين هؤلاء شباب ملحدون وآخرون ليسوا من أبناء المهاجرين، وواضح أن هذه المعطيات تبين مدى الصعوبة في فهم المواصفات الشخصية لأنواع التطرف أو المرشحين للجهادية.

بالنسبة للظاهرة الإسلامية "الجهادية" بشكل عام، فقد قرأها المؤلف باعتبارها إيديولوجية دينية تتأسس إحدى قواعدها على الندم والتطهير، مشيراً في هذا السياق، على هامش قراءة اعتداءات شارلي إيبدو في العاصمة الفرنسية باريس، إلى معطيين على علاقة بمنفذي الهجمات: الأول يرمز إلى مجموعة طلقت الحياة الدنيا؛ والثاني يصنف الذين قتلوا كوثنيين مشركين في عاصمة الرجس والانحراف، وبمقتضى نهل المؤلف من مدرسة جاك لاكان في علم النفس، اعتبر أن التضحية الذاتية في "الجهادية" تستحضر ما كان يُسميه المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان بــ"النرجسية الأسمى" للسبب المفقود.
عمل نوعي لفتحي بن سلامة، له ما له، وعليه ما عليه، وأفضل من هذا الصمت الرهيب الذي يهم المنطقة العربية في التعامل مع الظاهرة الإسلامية من أبواب علم النفس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

7 + 8 =

زر الذهاب إلى الأعلى