الرحّالة الرقميون: جيل جديد يُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي بهدوء

الدار/ مريم حفياني
في السنوات القليلة الماضية، ظهر نمط جديد من أنماط الحياة والعمل، ينسف كل ما عرفناه سابقًا عن الوظائف المكتبية والاستقرار المهني. الحديث هنا عن الرحّالة الرقميين، أولئك الذين يحملون حواسيبهم المحمولة ويجوبون العالم بينما يمارسون وظائفهم عن بُعد. لم تعد المكاتب المغلقة والشركات الكبرى هي الإطار الوحيد للإنتاجية، بل صار شاطئ في بالي، أو مقهى في مراكش، أو بيت خشبي في جورجيا مقرًا لكثير من المحترفين الذين اختاروا الحرية على الروتين.
هذه الظاهرة، التي كانت في البداية محصورة في دوائر صغيرة من العاملين في مجالات التكنولوجيا والتصميم الحر، تحوّلت اليوم إلى حركة اقتصادية عالمية بقيمة مليارات الدولارات. تشير تقديرات حديثة إلى أن أكثر من 35 مليون شخص حول العالم باتوا يصنّفون أنفسهم كرحالة رقميين، ومن المتوقع أن يلامس الرقم حاجز 50 مليونًا في غضون بضع سنوات فقط. هؤلاء لا يسافرون لمجرد الترفيه، بل ينفقون على السكن والمواصلات والطعام والتعليم والخدمات، ما يجعلهم مصدر دخل مهم للمدن التي يزورونها.
أمام هذا التحوّل، أدركت العديد من الدول أهمية استقطاب هؤلاء الرحالة وبدأت في تعديل قوانين الهجرة والعمل. دول مثل البرتغال وإندونيسيا والإمارات أطلقت تأشيرات رقمية خاصة تتيح لهم الإقامة لفترات طويلة دون أن يُطلب منهم تغيير جنسيتهم أو الانضمام إلى سوق العمل المحلي التقليدي. هذا التوجه سمح للرحالة بالاستقرار المؤقت في أماكن توفر جودة حياة مناسبة، وإنترنت سريع، وتكلفة معيشة معقولة، بينما استفادت هذه الدول من تدفقات مالية جديدة دون أعباء اجتماعية كبرى.
وبينما يستفيد الاقتصاد المحلي من وجود هذه الشريحة المتنقلة، تظهر أيضًا بعض التحديات مثل تضخم أسعار الإيجارات في بعض المدن، وتحوّل بعض الأحياء إلى ما يشبه “فقاعات رقمية” تنفصل جزئيًا عن المجتمع المحلي. لكن رغم ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه الظاهرة فرضت نفسها كأحد أوجه الاقتصاد الحديث الذي لا يعترف بالحدود، ويمنح الأولوية للمرونة والمهارة والكفاءة.
الرحالة الرقميون ليسوا مجرد نمط حياة، بل هم تعبير حي عن تحوّل عالمي أعمق تقوده التكنولوجيا وتدعمه الحاجة المتزايدة للتوازن بين الحياة والعمل. وبينما لا تزال الحكومات تسعى لفهم هذا الواقع الجديد، يبدو أن القطار قد انطلق، وأن مستقبل الاقتصاد العالمي سيكون، إلى حد بعيد، في قبضة هذا الجيل الذي يكتب تاريخه من كل مكان، ولا ينتمي إلى مكان واحد فقط.