سلايدرمغرب

الصناعة التقليدية في مواجهة التحولات التكنولوجية.. مؤسسات ومهنيون وأكاديميون يبحثون سبل التأطير والحماية

الدار/

أجمع مسؤولون مؤسساتيون، ومهنيون بقطاع الصناعة التقليدية، وأكاديميون وبرلمانيون على أن قطاع الصناعة التقليدية يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم في ظل التحولات العميقة التي تفرضها التكنولوجيا الحديثة وضغوط السوق مقابل الحاجة الملحّة إلى صون الطابع اليدوي والحفاظ على الهوية التراثية للحرف الأصيلة، فبينما أقرّوا بأن المكننة أصبحت واقعا لا يمكن تجاهله، شددوا في المقابل على أن هذا التحول إذا لم يُؤطَّر بضوابط واضحة قد يتحول من أداة تطوير إلى تهديد مباشر للمهارات المتوارثة ولمكانة الصانع التقليدي، ولمستقبل الصناعة التقليدية كرافعة اقتصادية ومكوّن أساسي للهوية الثقافية الوطنية.

وأوضح المتدخلون في اليوم الدراسي الذي احتضنته قاعة فاس المدينة اليوم الجمعة تحت شعار” المكننة بقطاع الصناعة التقليدية بين التهديد والتجديد… أية آفاق لمستقبل الحرف الأصيلة؟” بحضور مسؤولين جهويين وممثلي الإدارة والمنتخبين والجامعات وخبراء وصناع تقليديين أن القطاع يمر بمرحلة دقيقة وحساسة تفرض نقاشا هادئا ومسؤولا حول كيفية التوفيق بين متطلبات التطور التكنولوجي المتسارع وضرورة الحفاظ على الطابع اليدوي الأصيل الذي يشكل جوهر الصناعة التقليدية ومكونا أساسيا من مكونات الهوية الثقافية الوطنية.
وفي هذا الإطار، أكد موحى الريش مدير المحافظة على التراث والابتكار والإنعاش بكتابة الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، أن موضوع المكننة يندرج في سياق عام يشهد فيه قطاع الصناعة التقليدية تحولات عميقة بفعل تزايد الطلب وتطور أذواق المستهلكين واشتداد المنافسة، وهي عوامل دفعت عددا من الفاعلين إلى إدخال الآلات والتقنيات الحديثة في بعض مراحل الإنتاج، بهدف الرفع من الإنتاجية وتسريع وتيرة العمل.
غير أن هذا التوجه، يضيف الريش ورغم ما يحمله من فرص اقتصادية، يثير في المقابل إشكالات جوهرية مرتبطة بالحفاظ على الهوية التراثية للحرف التقليدية خاصة فيما يتعلق بصون المهارات اليدوية المتوارثة أبا عن جد في مختلف مراحل الإنتاج، فضلا عن التساؤلات القانونية والتنظيمية المرتبطة بحدود استعمال المكننة، ومعايير التمييز بين المنتوج التقليدي الأصيل والمنتوج الصناعي.
وفي هذا السياق، ذكّر الريش بأن القانون رقم 50.17 يعرّف الصناعة التقليدية باعتبارها كل نشاط يغلب عليه الطابع اليدوي، يهدف إلى صنع منتجات، أو تحويل مواد، أو تقديم خدمات، وهو تعريف يؤكد مركزية البعد اليدوي في هوية هذا القطاع.
وانطلاقا من هذا الوعي، شدد مدير المحافظة على التراث والابتكار والإنعاش على أن كتابة الدولة تبنت نهجا استباقيا يقوم على رؤية شمولية ومتكاملة أساسها تثمين والمحافظة على كل ما هو يدوي أصيل من خلال اعتماد المواصفات المغربية الخاصة بمنتوجات الصناعة التقليدية، وتطوير منظومة علامات الجودة بمختلف مكوناتها.
كما أشار إلى إرساء برنامج مواكب لتحسين جودة المنتوجات التقليدية، يرتكز على استعمال مواد أولية ذات جودة عالية، وإدماج بعدي التصميم والابتكار لمواكبة أذواق ومتطلبات السوقين الداخلي والخارجي إلى جانب اعتماد المعايير المتعلقة بالحفاظ على صحة وسلامة المستهلك والصانع، وحماية البيئة، انسجاما مع التوجهات الدولية في هذا المجال.
واعتبر الريش أن تنظيم هذا اليوم الدراسي يشكل فضاء للحوار المسؤول والنقاش العلمي بين مختلف المتدخلين، من إدارة ومنتخبين وجامعات وخبراء وصناع تقليديين بهدف تشخيص واقع المكننة في بعض الحرف واستحضار آثارها التراثية والاقتصادية والاجتماعية والعمل على بلورة رؤية مشتركة توازن بين متطلبات التطوير التكنولوجي وضرورة الحفاظ على جوهر الصناعة التقليدية كأحد المكونات الأساسية للهوية الوطنية.
وفي ختام مداخلته، أبرز أن التحديات المطروحة اليوم تتمثل أساسا في ضمان استمرارية الحرف اليدوية التي تعبر عن التراث والهوية بالتوازي مع حسن توظيف المكننة وتأطيرها، حتى تتحول إلى عنصر إيجابي يخدم الفاعلين في القطاع ويحافظ على القيمة الفنية والرمزية للمنتوج التقليدي، ويعزز في الوقت ذاته تنافسيته وجودته.
وأعرب المسؤول ذاته عن أمله في أن تُتوَّج أشغال هذا اليوم الدراسي بتوصيات عملية ومقترحات واقعية، تشكل أرضية أساسية لبناء تصور متكامل يؤطر استعمال المكننة في قطاع الصناعة التقليدية، بما يضمن حماية التراث، ودعم الصانع التقليدي، وتحقيق تنمية مستدامة لهذا القطاع الحيوي.
من جهته، يرى المدير الجهوي للصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني محمد بلخياط أن إدخال المكننة في عدد من الحرف خلال السنوات الأخيرة وعلى رأسها استعمال آلة الليزر في حرف الزليج التقليدي، والنحاسيات، والنجارة، والتطريز وغيرها، جاء مدفوعا بعوامل متعددة من بينها ارتفاع الطلب وتنامي المنافسة، وتغير أذواق المستهلكين، إضافة إلى الإكراهات المرتبطة بالكلفة والآجال.
وأوضح أن هذا المسار، رغم وجاهة بعض دوافعه الاقتصادية والتجارية أفرز تداعيات مقلقة مست جوهر الحرفة التقليدية وطرح أسئلة عميقة حول الأصالة وجودة المنتوج والعدالة التنافسية، واستمرارية المهارات اليدوية المتوارثة، وهو ما تُرجم إلى نقاش عمومي ووقفات احتجاجية عبّرت عن تخوفات حقيقية داخل أوساط الصناع التقليديين.
وشدد على أن الإشكال المطروح لا يمكن اختزاله في موقف ثنائي بين القبول أو الرفض، ولا في بعد تقني محض بل هو إشكال مركب ومتعدد الأبعاد، يمس الجوانب التراثية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسوسيو-مهنية والقانونية والتنظيمية، ويتطلب مقاربة شمولية ومتوازنة.
وفي السياق نفسه، أوضح رئيس غرفة الصناعة التقليدية الناجي فخاري أن ظاهرة الاستعانة بالمكننة أضحت بديلا منافسا وطاغيا على عدد من الحرف اليدوية الدقيقة، مستحضرا حرف الزليج التقليدي، الرّشام، والتخرام، والنقش على الخشب والنحاس، وهي حرف أصيلة وعريقة تشكل جزءا من هوية مدينة فاس، لكنها باتت اليوم مهددة بالانقراض بفعل زحف المكننة، التي تنافسها في السوق وتقضّ مضجع الحرفيين.
وأكد أن غرفة الصناعة التقليدية بفاس بادرت، انطلاقا من مسؤوليتها المؤسساتية، إلى فتح قنوات الحوار حول هذه الإشكالية، ليس بهدف رفض المكننة بشكل مطلق، وإنما للحد من زحفها غير المؤطر، وطرح الإشكالات المرتبطة بها، وتعميق البحث والنقاش، والانفتاح على المهنيين والمؤسساتيين، واستقصاء آراء مختلف المتدخلين، وتنوير الرأي العام بمختلف تجليات الموضوع وانعكاساته على الموروث الثقافي.
كما شدد على ضرورة انخراط الشباب، خاصة المنقطعين عن الدراسة، لتمكينهم من تعلم هذه الحرف والحفاظ على الخلف وتوريث المهن وحرفيتها للأجيال المقبلة، داعيا إلى إدراج الحرف الوطنية ضمن البرامج التعليمية والتكوينية في المدارس والمعاهد الوطنية، ومهيبا بالشباب الانخراط في هذه السيرورة.

زر الذهاب إلى الأعلى