الدين والحياة

صناعة الإسلاموية: الإصلاح لإدخال الإسلام إلى الحداثة

الدار/ حكيم القروي

 

إذا كانت هناك فئة تروم إصلاح الدولة وإدارتها، فهناك فئة أخرى تحاول جاهدة تحديث الدين وتعاليمه. وبوصفه سباقا في هذا المجال، فتح جمال الدين الأفغاني (1849-1905) الطريق لمفكرين آخرين أمثال محمد عبده (1849-1905) ورشيد رضا (1865-1935) اللذين اعتبرهما المؤخرون الغربيون من مفكري الطبقة الأولى. ويهتم التجديد الإصلاحي في المقام الأول بأنماط نقل المعرفة الدينية المؤسساتية، مع وجود نوع من التعارض بين علماء التكوين التقليدي والنخبة الجديدة المكونة في جامعات "التنظيمات"، مؤدية إلى تحديث عملية نقل المعرفة الدينية عن طريق وضع تعليم جامعي يخول الحصول على الشواهد. وهو ما جعل الدين يخرج من التدريس العتيق للعلماء ليدخل باب النقاش الفكري.

وترافقت هذه الحركة مع نوع من التشكيك في علماء الصدر الأول ممن يعتمد عليهم العلماء التقليديون، ولا يرى الإصلاحيون أنهم منزهون عن الخطأ. وتم هذا التشكيك عن طريق الاجتهاد بوصفه "آلة حربية موجهة لكل احتكار للسلطة التأويلية"، حتى يكون لكل المؤمنين حق متساوي في الولوج إلى الحقيقة الإلهية. "إن خروج صوت الإسلام من دوائر العلم الدينية ربما يمثل أحد أهم الثورات الحديثة في الإسلام: أصبحت المرجعية الإسلامية مفتوحة لكل طرق الأقلمة". وكان من آثار هذا التشكيك إحداث أزمة شرعية للسلطات الحاكمة في تلك الفترة، كما ترافق مع تشكيك أكثر شمولية في مدارس فقهية كانت فكريا في حكم المتحجرة والثابتة والمنغلقة داخل بناء من الخضوع مرتبط بالطقوس الفقهية.

وينقسم الفكر الإصلاحي إلى شقين اثنين: من جهة، العودة إلى إسلام حرفي ومنطقي (ونجد هنا تأثير ديكارت)، متخفف من كل الخصائص الشعبية والخرافية؛ ومن جهة أخرى، محاولة امتلاك حداثة الغرب. وهنا يجدر التذكير بأن الإصلاحيين كانوا يستعملون في تلك الحقبة مصطلح "حضارة" بدل مصطلح "حداثة"، وكانوا ينظرون إلى ثقافتهم نظرة عنيفة واصفين إياها بالظلامية، بينما قدّموا الغرب بصفته مكانا انصهرت فيه بوتقة الحضارة بامتياز. وهنا يوجد إشكال مثير للاهتمام: فإسلام الحداثيين ما هو إلا رد فعل على النزعة التوسعية لفكر للغرب، لكنه في المقابل من ذلك إسلام معجب بالأدوات المفاهيمية التي أدت إلى نجاح هذا الغرب.

وبفضل كثرة الحوارات بين الإصلاحيين والمتمسكين بالتراث نهاية القرن التاسع عشر، انتقلت النقاشات من المدارس القرآنية إلى الفضاء العام: عوضت المقالات الصحفية الكتيبات الدينية، والمحاضرات الخطب الدينية. واندرجت تلك الحوارات في سياق الهيمنة التكنولوجية للغرب والانطباع من تقهقر المجتمعات المسلمة. وعلى هذا الأساس، استعمل الإصلاح الديني في خدمة نهضة المجتمعات. "في البداية كان استخدام دراسة السيرة النبوية لإعادة بناء مجتمعي وأخلاقي للعالم الإسلامي هو طموح إحدى الزوايا الإصلاحية (في  القرن الثامن عشر في الحجاز) قبل أن يتحول إلى دائرة الإصلاحيين السلفيين في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر" (بيكودو نادين).

وتأسست تلك المحاولة الإصلاحية على محورين اثنين: إعادة قراءة السنة التي تؤسس لسلطة مجدَّدة لشخصية الرسول الذي يعد نموذج المجتمع ومرشده؛ والتأكيد على وجود تناسق وعقلانية في الرسالة المنزلة. وسبب فشل التفكير الإصلاحي هو المنطق: فبما أن الإسلام دين منطق فهناك إذا تناسق واضح في رسالته. وقد دافع عن هذه النظرة المصلح جمال الدين الأفغاني (1838-1897) حينما كان في باريس. وسبق وقال إيرنيست رونان (1823-1892) في محاضرة له في جامعة السوربون بعنوان "الإسلاموية والعلم" أن الإسلام لم يكن متطابقا مع المنطق وبالتالي مع الديمقراطية.

 

وهو ما رد عليه جمال الدين الأفغاني بالقول إن الإسلام لم يكن يختلف في شيء عن النصرانية، وأنه يستطيع بنفس الطريقة تجاوز المثبطات والقوى المحافظة في التاريخ، والاستعانة بالمنطق للانضمام إلى ركب حداثة زمانه. فالإسلام منطقي في معتقداته عقلاني في أوامره. وتبدو أهمية العلم جلية في تطوير التعليم الحديث على أساس عدم الاكتفاء بنقل العلم (العلم الديني) وإنما بالمعرفة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى