الشعر ولحظة البرق… في“خطة بديلة“ للمغربية سكينة حبيب الله
بلغة شعرية قائمة على التجريب، والتوسع في الخيال، تقدم الشاعرة المغربية سكينة حبيب الله مجموعة شعرية جديدة بعنوان“خطة بديلة“، صدرت عن دار المتوسط للنشر 2019.
موقف شعري ناضج
وتسعى سكينة حبيب الله في قصائدها إلى تقديم خطة بديلة لمسار الحياة، فتبحث بمخاضها الشعري عن خريطة شعرية، تتكفل بوصول العالم إلى منطقة التعادل والسلام. هي النتيجة التي لا يحققها الشعر وحده، وسط رغبات متزاحمة، وارتفاعات شاقة في التمييز والعنصرية حول العالم، إنما إرادة الإنسان.
وبطريقة سلسة، تستدرج حبيب الله اللغة، أو العكس، إلى فضاء فني يدفع إلى إغماض العينين أكثر من مرة، فتعترض الشاعرة المغربية الأشياء بنظرات ثاقبة، تسمح بإعادة تعريفها، وتقديمها للحياة بشكل مغاير، مثلما يمر شعاع ضوء على منشور ضوئي، ليخرج من الجانب الآخر متحللًا من شكله القديم، وبتعريف آخر.
وتمتلك الشاعرة المغربية، في قصائدها، رؤية تدلل على أننا أمام موقف شعري ناضج، قائم على المكاشفة، والحفْر المستمر في التفاصيل غير المحسوبة على امتداد ثقل العالم.
من خلف الزجاج
وتخاطب سكينة حبيب الله العالم من خلف الزجاج، كاعتراف منها بأنها لم تأتِ لتغيير العالم، فهي موقنة بأن الشعر لن يفعل ذلك. وتسوق نظراتها إلى المختبر اللغوي، بما تعتقده: بأنها وحدها اللغة، التي تمتلك ثيمات جديدة لهذا الفضاء. فتكتب :
”لا تلتفتْ إليّ، أيّها العالم،
أنا مُجرّد امرأةٍ عادية
أعلمُ أنَّ النَّظَرَ في عينَيّ
يبعثُ على الخوف.
عيناي اللتان من أبيض وأسود؛
كصورةِ إيكوغرافي
تحملُ الخبرَ السَّيِّئ“.
ويظهر فيما سبق، كيف أن حبيب الله منشغلة في تفسير الحياة، بمدارك مختلفة، لكن بتفاصيل الحياة ذاتها. وفي ذلك يقول الشاعر البحريني قاسم حداد: ”لا تنشغل بالكتابة عن قراءة الحياة“. وهل من كتابة، لولا اعتياد قراءة الحياة؟
اللحظة العملاقة
وتظهر في لغة الشاعرة المغربية قدرة تدل على التمرس في الصياغة، والاختزال. فهي تبحث دائمًا عن اللحظة العملاقة، تلك اللحظة ذات الطعم اللاذع، تلك التي إن تلاشى أثرها، دامت في الذاكرة. إنه حامض الألم، يترسب في الذاكرة، وينشط في لحظات التأمل. فتكتب حبيب الله:
”استقرَّ الدّبّوس الحديدي،
حين ضغطتِ السكرتيرة، ساهيةً، على الكبّاسة
كي تُثبِّتَ صورنا المدرسية.
الآن .. كبرْنا
وكما كان متوقَّعًا
كلّما حاولْنا الكلام،
تقاطر
من أفواهِنا
الصدأ“.
خطوة للخلف
وبما تؤسس له معرفة الشعر، فإن الشاعر من الحتمي أن يعود للماضي حين يكتب، فيسترجع الأشياء كما لو أنها تحدث الآن. ذلك العبور لمخزن الذات الإنسانية هو موقف شاعري، يحتاج لمهارة اللعب مع اللغة. هكذا بدت حبيب الله في الكثير من خطواتها التي اتخذتها للخلف. ولعله من المربك أن نعرف هل هو رجوع نابع من الخيبة؟ أم عودة لمواجهة أشياء غادرتها في الماضي مهزومة أمامها، وعاودتها لتنتصر. وتقول هنا الشاعرة:
”إنَّه صوتُ أُغنيّةٍ قديمة
ما جعلَنا نلتفِتُ بذُعرٍ إلى الماضي،
ونحنُ نحاوِلُ عبور
هذا الدَّغَلِ المخيف،
حيثُ الكلماتُ تضيءُ
في أيدينا المرتجفة
كمصابيح يدويّة
نعرفُ أنّها ستشي بمخبئِنا لِلَّيل“.
إنه إيمان لدى الشاعرة بأن الشعر هو من يفكك الأمور المعقدة، لتسير دون إبهام في الدروب. وتخاطب حبيب الله الشعر قائلة:
”والآن أيها الشعر،
أيها الصيدلاني المتمرس،
وحدك من سيفك هذه الطلاسم“.
صُفارة
وفي خطتها البديلة، القائمة على تنوع الزوايا، تسكن حبيب الله مع الأشياء الهالكة، لتعيد تفعيل مواقف تلك الأشياء عن الحياة بصوت الشعر. فالعالم السريع لا يلتفت، ويهرس تحت قطاره الكثير من الجمال. لكن الشاعر يتأمل ذلك، لأنه يعرف بأن الصُّفارةَ لن تكمل مهمتها، دون الكرة المتناهية في الصغر داخلها، ودون ذلك الإحساس بالشيء، هو ذاته الزفير الإنساني القوي في فتحتها. وتجرب حبيب الله، فتقول:
”اليد البالية، أحيانًا ترتفع؛ لتُلوّح.
وقد كانت فقط تريد عد الباقي والانصراف.
في بعض الأوقات تصفع بقسوة،
فيما نيتك الحقيقية، كانت وضعها بحنان على كتف.
وربما تفاجئك، وهي تسقي زهرة في قلب من خططت طويلًا لقتله.
لا تخف، إنها اليد تتذكر ماضيها، ولا أحد باستطاعته منعها من ذلك.
فما من إنسان على هذه الأرض كان أول من استعمل يده. يتساوى في ذلك الجميع، لحسن الحظ“. هنا تقوم الشاعرة بتخليق اليد الإنسانية، وكأنها روح مستقلة، بذاكرة ومخزون معرفي خاص. وتكمل في نفس النص:
”نتفهم هذا جيدًا، نتفهم أن الكمية محدودة، وعلينا تبادل هذه الأيادي لآلاف السنين، برضى كامل، وبلا توقف، مثل عائلة فقيرة، تمرر بينها الملابس الرثة، فما نسميه خطوطًا، ليس في نهاية الأمر، إلا آثار الخياطة لترقيع اليد البالية“.
حروب خاطفة
من الواضح أن الشاعرة المغربية تفضل خوض الحروب الخاطفة مع الأشياء، فبدت قصائدها القصيرة مثل جولات كثيفة لإعادة تحرير المعنى الجديد، مختتمة الحرب بطلقة مدوية، ذلك البرْق الشعري، يتبعه صوت مسموع داخل الإنسان.
تقول سكينة حبيب الله:
إنه السقوط العظيم،
ما يجعل النهر،
يتحول إلى شلال“.
إن في ذلك إحالة لشراسة الحياة، لاستخراج طابع جميل، أو بدلالة أخرى، محاولة لدلق الخيبات في النهر.