تفكيك للزمن وتفاصيله.. في رواية ”أعياد الشتاء“ للسورية نغم حيدر
تتحدث الروائية السورية نغم حيدر، في روايتها ”أعياد الشتاء“ الصادرة عن دار ”نوفل“ 2018، عن ألم الغربة، ومراحل التحول للإنسان، بعيدًا عن وطنه.
المؤقت والمستقبل
وتسلط الكاتبة الضوء على حياة فتاتين سوريتين، أجبرتهما الظروف المعيشية، وفقدان الأمان، ووحشية الحرب، في سوريا، على الهجرة إلى بلد أوروبي. وتركز القصة على محاور متعلقة بتفاصيل المرأة مع هواجسها الاجتماعية، وقت الأزمات، وفقدان السند الحقيقي. شاهيناز وراوية، الفتاتان المختلفتان في الطباع، تجمعهما غرفة صغيرة في الغربة، ولا يكون بمقدورهما إلا التعايش سوية، وإظهار حميمية وهمية؛ لأن الواقع الجديد لكلتيهما، يتطلب ذلك. وخلال هذه المرحلة المؤقتة، تتبادلان الحوارات، وتكشف كل منهما عن مكنونها للأخرى، قبل البدء في حياة جديدة في بلاد الغربة.
فاصل بطول مسطرة
هذه الغرفة الصغيرة، تحوي فاصلًا مكانيًا، يفصل الفتاتين، أثناء النوم بما لا يتعدى طول مسطرة، لكنها تحوي بعدًا شاسعًا في الميول والطباع بين شاهيناز وراوية. فالأولى تمتلك القدرة على مجاراة وحشية الشارع، بما فيه من خشونة، وغياب لكل وسائل الأمان. أما راوية، فتتقوقع على ذاتها، وتسكن خوفها الغريب عنها، الذي جسدته الغربة في وعيها.
ذكريات
وتخوض الرواية في مناطق زمنية متباعدة من خلال اتباع الكاتبة تقسيم العاطفة، على الحاضر بكل ما فيه من رهبة، ومن ثم على الماضي، بما يحمله من ذكريات، وكذلك المستقبل المجهول، في بلد غريب، بما يحمله من احتمالات. وتُبنى آلية تفكيك الزمن تلك، من خلال مواقف مختلفة، تمر بها الشخصيات، تتعدد فيها التنقلات بين الأبعاد الزمنية، وعلى الرغم من أنها حياة جديدة، ومن المفروض أن يكون للواقع أثر في جعل الفتاتين أكثر إحساسًا بالأمان، إلا أنه كثيرًا ما كانت تنفلت صُرة الماضي، بذكرياتها، في لحظة واحدة، حتى تفيض جدران الغرفة الضيقة بالدموع. فتقول الكاتبة: ”ستجد دومًا شيئًا يشبهها، ويعيد إليها ذكرى الأيام الجميلة. لم تكن تتوقع أن لديها هذا المخزون المروع من الذكريات. ولم تتعرف حقًا إلى قيمة البهجة، التي عاشتها، أو إلى مكانتها الرفيعة، إلا حين سافرت إلى هنا“.
اقتباسات
وتتبلور لغة ”حيدر“ في نثرها للمواقف، بشكل يميل إلى سهولة التراكيب، وإمعان في تتبع مكونات المشهد. واحتوت الفقرات على حوارات من نبض ما يعايشه المواطن العربي من يوميات. واشتملت اللغة لديها على العديد من الجمل المشتقة من المواقف، بحيث تعيش كاقتباسات فنية. كأن تقول:“ أحيانًا يصادف المرء أشخاصًا، يسلبونه ما كان يجيده“.
تصوير
وتسرد ”حيدر“ الأحداث بطريقة الراوي، لكنها تنسحب في أماكن عدة، وتتخفى خلف النص؛ لتتيح المجال لشخصياتها، من أجل إكمال دورة الحياة الروائية، بشكل تلقائي. وكأنما الأمر وقتها يحدث دون تدخل من الكاتبة، بحيث تصل الشخصيات إلى مرحلة اعتمادها، شخصًا بكامل تجسيده، وليس مجرد شخصية على الورق. وتمكنت الكاتبة السورية من ذلك في طريقة تعاطيها مع شذرات كل موقف، ووصفها الدقيق للأبطال، والأحداث، كما لو أن هنالك مكنسة تفاصيل، لا تترك نقطة على الأرض، إلا جمعتها.
وامتلكت الروائية السورية حس المصور، أثناء السرد، فرصدت مشاهد ثاقبة، تحركها اللغة، بنبضها المتجدد. ومثال على ذلك، تكتب: ”ظهر في الصورة مثلثان، وضلع وحيد، أخفى رأس شهيناز بقيته. فيما انعكس رأس راوية من الخلف على زجاج النافذة وراءها، وبان التماع شاشة الهاتف أيضًا“.
استجواب
وتمثل الغرفة الضيقة، باعتبارها رمزًا، منطقة مؤقتة، للانتقال بين الحياتين. وهي لحظات فارقة في التشكيل الجديد، ونحتٌ آخر لهوية كلتا الفتاتين، اللتين تخضعان خلال هذا المخاض، لاستجواب أسئلة الماضي الثقيلة. هو أثر اللامكان على الإنسان، بما يحمله من عودة إلى الماضي المؤلم.
معايير
وينتاب ”راوية“ في الغربة، شعور الاحتياج إلى الفرح: ”من الأشياء التي فقدتها راوية، الفرح الأصيل، ذاك الذي يعيشه المرء قبل أن تقع الفواجع. الفرح اللذيذ الذي يخدر الذكريات قليلًا. الذي يستله المرء من أتفه الأمور؛ ليصرع المتاعب“. هو الطابع العاطفي في إدراك الأمور، وعلى العكس كانت شاهيناز، تستخدم خبرتها الاجتماعية في حصر تلك المفاهيم، في خانة المهملات.
فجوة عن الحياة
وتتناول الرواية أيضًا، الأبعاد النفسية الناتجة عن اقتلاع الإنسان مجبرًا، من البقعة المكانية التي اعتادها. فما يرسب داخله من علاقة مع القديم، يبقى يتناثر في كل الأماكن التي ينتقل إليها. وما يترتب عليه، أن فجوة كبيرة تبقى بينه وبين الحياة، مهما كانت مقوماتها، وعن ذلك تقول حيدر: ”في الرحيل، نظل نحن أيضًا. نبحث عن الجلاد رغم الحياة الجديدة، التي مُنحت لنا. فقد اعتدنا ألّا نذوق طعم العيش سوى بالألم. شيء من داخلنا يحتاج إلى الحفر الموجع؛ للتنفس. هي العادة؟ هو مرض موروث من البلاد، التي عشنا فيها، مكممي الأفواه، في أمان وظل المارد الجبار؟ أم هو الحب بكل بساطة؟ ربما هو كل هذا، والرهان، هو إعادة تدويره، تحت سماء جديدة“.