فن وثقافة

هل بقيت نظرية ”موت المؤلف“ صالحة في عصر التكنولوجيا؟

حين أطلق رولان بارت نظرية ”موت المؤلف“ في مقاله الصادر عام 1968، لم يكن يعلم بأن أدوات التشكيل الإبداعي ستستمر في التغير، وصولًا إلى مرحلة النشر الفكري على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقد جاءت فكرة ”موت المؤلف“ في إطار سعي رولان بارت حينها، لإكمال رؤية الفلاسفة البنيويين، الذين تخلوا عن كل أسس النظرية الكلاسكية والحداثية في النقد، وانطلقوا في ثورة ما بعد الحداثة، فكرًا، وفنًا، وأدبًا.

أن يموت المؤلف، يعني أن يتم قطع يده عن نصه، لمجرد الانتهاء من إصداره للقارئ، بحيث تنشأ علاقة جديدة بين النص من جهة، والقارئ من جهة أخرى، فلا قيمة للمؤلف في هذا الاشتباك. وهو مناقض تمامًا لما ذهبت إليه المدرستان الرومانسية، والواقعية سابقًا، حين كان المؤلف ركنًا لا يمكن تجاوز شخصيته، وسيرته، وحياته، في تفكيك النص، وتحليله، من قبل الناقد.

فقد كان الطرح النقدي السائد يقول: ”عمل بودلير هو انعكاس لفشل بودلير، وعمل فان جوخ، هو جنونه، بينما عمل تشايكوفسكي، يأتي كنتيجة لخطاياه“.

عالم غير متوقع

ولقد قوبلت نظرية ”موت المؤلف“ منذ حينها وإلى هذا اليوم بمواقف متفاوتة، ما بين التبني والرفض.

وفي العصر الحديث، استجدت أدوات كثيرة في الإبداع، ومر بمحطات متعددة أثرت في هيأته ومضمونه، وصولًا إلى التكنولوجيا، التي صارت مثار اهتمام الكاتب، حيث أتاحت للمبدع منبرًا غير مسبوق في الشكل والكيفية، من جانب آنية إطلاق الإبداع، وعرضه بشكل فوري على المتلقي، بل والأكثر من ذلك، التعرف على انطباعات القارئ، من خلال التعليقات، وأدوات التفاعل التكنولوجية، كما وأصبح بإمكان الكاتب فتح نقاش مفتوح على الملأ، أو حوار خاص مع القارئ، حول النص.

وفي حال أردنا تطبيق فكرة ”بارت“ على النص الحديث، فإن انقطاع الكاتب عن نصه، صار أمرًا مستحيلًا، إذ إن الكاتب ينشر نصه على صفحته، ولا ينسلخ عنه، وحين ينشر كتابه ورقيًّا، يقوم بإصدار نسخة الكترونية منه، يقرأها رواد الفضاء الافتراضي، ويمررون له آراءهم، عبر النافذة الشخصية.

وعلى ذلك، هل نظرية قتل المؤلف تعززت بفعل التكنولوجيا، أو أنها تقلصت، وهل فعليًّا، لو كان ”بارت“ يعلم بأن العصر الآتي من بعده، سيرتكز على التكنولوجيا، كان سيفكر في صيغة أخرى لنظريته، أم غير ذلك؟.

توقعات المعنى

لقد كان ”بارت“ يرى بأن اللغة هي الكيان الأهم في النص، وهي الشخصانية المنوطة بالتحليل والتفكر، بعيدًا عن تكيف الكاتب مع مجتمعه. ورأى أيضًا، بأن إقحام الكاتب في النص، يحد من رؤية القارئ، وقدرته على التأويل في الحالة الأكثر تشظيًّا له.

وقد ساهمت السريالية في تعميق مبدأ الفصل ما بين النص والمؤلف، حين أزاحت صفة القداسة عن صورة المؤلف، بعد أن أمعنت في إحباط التوقعات، الخاصة بالمعنى، وهو الأمر الذي أحال الكاتب إلى حالة الإخفاء، كما لو أنه ثقب صغير في جورب.

ورأى ”بارت“ بأن ”وحدة النص لا تكمن في محطة انطلاقه، بل في محطة وصوله“، وما أراد أن يطرحه كان بغية الوصول إلى أن ”ميلاد القارئ لا بد أن يكون على حساب موت المؤلف“. لكن هذا الطرح قد تمكنت التكنولوجيا من إنهاء الكثير من صلاحيته، أو بمعنى آخر، خلخلة أهلية وجوده، إذ أصبح بإمكان الكاتب، النشر الإلكتروني، ومن ثم مواصلة التعديل على النص، أثناء قراءة المتلقين له، مستفيدًا من تعليقاتهم، وملاحظاتهم، وصولًا إلى نص تفاعلي غير محدود مع الجمهور.

تبادل معرفي

وقد انطلقت فكرة ”موت المؤلف“، كتوجه ثوري بالأساس، بما تتطلبه تلك المرحلة، فيما تم استبدال كلمة ”المؤلف“ بالكاتب، حيث اعتبر ”بارت“ الكاتب مجردًا من عواطفه الخاصة، ومن مزاجه، وانطباعاته.

وتم تصويره في حالة المُجرب الذي يمتلك مخزونًا معرفيًّا غير محدد، وعليه أن يقوم بنسق هذا التبادل المعرفي، في هيئة النص. كما اعتبر القارئ شريكًا في النص، بالنسبة ذاتها مع الكاتب، ويقصد بذلك إثبات السلطة العليا للغة، في محور التفاعل في كل الاحتمالات. ولو دققنا سنجد أن الشرط الاخير قد تحقق، في حقبة التكنولوجيا؛ فصار القارئ فعليًّا مشاركًا في النص، بل وعرّابًا له، لكن دون قتل المؤلف.

كاميرات على النص

وفي ظل المقاربة بين الهدف القديم، والأثر الحالي، علينا أن نطرح سؤالًا ألا وهو: هل ما كان بارت يهدف إليه من لا محدودية في تأويل النص، قد تحقق بشكل مغاير؟، يمكن الرد بشكل إيجابي، لكن دون قتل الكاتب. فبارت كان يريد تأويلًا مفتوحًا للنص، بحيث يتم خنق التأويل الأحادي. ورغم سعيه للتخلص من الكاتب، لكنه ظل لصيقًا بنصه. كما وحدث ذلك التعدد في التأويل، الذي سعى إليه بارت، بل وصار من الممكن للقراء التفاعل، اتفاقًا واختلافًا، حول النص. إن بنية النص بدلالاته، صارت في عصر التكنولوجيا، بنوافذ مفتوحة على احتمالات جمة، من القراءة والتحليل، والمثير أنها، تحت سيطرة ومراقبة الكاتب.

موت الإبداع

يمكن القول إن عملية التأمل للنص تدور في 3 رؤوس، بزوايا مترابطة، داخل مثلث إبداعي محكم، تلك الرؤوس هي: (النص، والمؤلف، والقارئ). وما ينتج عن إقصاء أي منهم، يتسبب في العودة إلى خط مستقيم، سطر وحيد، بلا انزياح، وبالتالي موت الإبداع. لقد طرح بارت رؤيته، وتناولها العديد من المفكرين في الغرب مثل: ميشيل فوكو، والبعض من النقاد العرب اعتبرها نظرية، غير قابلة للإنهاء، وهو ما أثبت الزمن بأنه وهم كبير، بعد أن مشى مد التكنولوجيا ليغطي مساحات الإبداع المختلفة، وأبقى المؤلف ملاصقًا لنصه.

المصدر / مواقع إلكترونية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 × 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى