الدين والحياة

البحث عن الإيمان في عصر الحداثة

عماد الهلالي

صدر مؤخراً كتاب في لبنان والعراق، بين دار التنوير في بيروت ومركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ضمن سلسلة "تحديث التفكير الديني" للمفكر الإسلامي العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي يحمل عنوان: "الدين والظمأ الأنطولوجي". وربما تبدوا مفردة "الأنطولوجي" [ontology] غريبة إلى حدّ مّا على القارئ أو السّامع الذي لم يستأنس بها، إلاّ أنها بحثت في عدد من الكتب الفلسفيّة، وعلى وجه الخصوص الفلسفة الوجودية، سواء كانت إيمانيّة، كإيمانيّة الفيلسوف الدنماركي كيرككورد (ت 1855م)، أو المفكر المعاصر مصطفى ملكيان(ولد 1955م)، أم إلحاديّة، كإلحاديّة الفيلسوف الفرنسي سارتر(ت 1980م)، أو الفيلسوف والمفكر المصري عبد الرحمن بدوي(ت 2002م).
"الأنطولوجي" تعادلها بالعربيّة "الوجودي"، وهي دراسة الأشياء (الموجودة) في ذاتها من حيث وجودها. أي دراسة الموجود بما هو موجود، من أجل الوصول إلى فهم واستيعاب حقيقة الموجود كما هو، إن أمكن ذلك. ويشرح عبد الجبار الرفاعي ما يعنيه هو بعنوان كتابه في مقدمته قائلاً: "أعني بالظمأ الأنطولوجي الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود، إنّه ظمأ الكينونة البشريّة، بوصف وجود الإنسان وجوداً محتاجاً إلى ما يثريه، وهو كائن متعطّش على الدوام إلى ما يرتوي به".
يتكوّن الكتاب من مقدمة وسبعة فصول. الفصل الأول "نسيان الذات" بمثابة توطئة تفضح التعسف والإهمال والتجاهل الذي تعرضت له "الذات الفردية"، وكيف تم إهدارها في أدبيات الجماعات اليسارية والقومية والإسلامية. ففي التفاتة دالة يؤشر الرفاعي إلى كيفية تضييع تلك الذات التي طمسها ركام هذه الأدبيات الحزبية، قائلاً: "يولد الإنسان بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألّم بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويلحد بمفرده. ويجتاحه بمفرده أيضاً: القلق، اليأس، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الروح، وانطفاء القلب، والسوداوية، والعدمية، والجنون… إلخ. لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلّا عندما تتحقّق وتوجد الذات الشخصية، وهذه الذات لا تتحقّق من دون الفعل، فالوجود الإنساني لا يصل إلى الامتلاء إلا بالفعل وحده. الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرّيّة، وحيث لا حرّيّة تنطفئ الذات. الحرية ليست أمرا ناجزا قبل أن نشرع باستعمالها، وجود الحرّيّة يعني ممارستها. الحرّيّة لا تتحقّق بعيدًا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته. لحظة تنتفي الحرّيّة تنتفي الذات، إذ لا تغتني الذات وتتّسع وتتكامل إلّا بالحرية".
الفصل الهام هو الثاني، الذي يحمل عنوان "نسيان الإنسان"، وهو في الحقيقة محاولة أوليّة لكتابة السيرة الذاتيّة للمؤلّف، مع وعوده بإكمال هذه السيرة التي كتبها بحذر شديد جداً. علماً بأنّ الفصول الأخرى للكتاب هامة أيضاً، بما تحمل هموم الدين وإيمان الإنسان في العصر الراهن، وتسعى لتخليصه من دين البغض والكراهيّة ونفي الآخر إلى دين الحب والمحبّة وقبول الآخر والتصالح والتعايش السلمي مع الحداثة.
"نسيان الإنسان" محاولة أوليّة لكتابة سيرة روحية أخلاقية فكرية ذاتيّة، بحسب وصف المؤلف، وهذه السيرة قد خضعت إلى مقص الرقيب، ولكن هذا المقص كان من المؤلف نفسه، حاول في هذه السيرة جلد الذات بالذات، ولكن بطريقة طريفة وخفيفة، أراد المؤلف المحترم البوح ببعض ما تيسّر له من خلجانات داخليّة لتخفيف بعض الآلام، ولكن هناك وكأنّما رقيب يراقب المؤلّف وينتابه خطوة بخطوة. ومن الجميل أن الرفاعي لا يخجل من التصريح بذلك، إذ يكتب: "لا أزعم أني أمتلك ما يكفي من روح المجازفة والمغامرة والشجاعة، لتدوين ما يخدش الحياء، أو ينتهك التابوات المتجذرة في عالمنا، خاصة وأني مازلت منتمياً للحوزة، ومتساكناً مع الإسلاميين بألوانهم واتجاهاتهم كافة، وحريصاً على حماية ذاكرتي المشتركة معهم، وعدم التضحية بعلاقاتي التاريخية، بل أعمل على تعزيزها، وعجزي عن الانفصال والخروج والانشقاق على المحيط الاجتماعي، ذلك أن من يعترف بخطئه في مجتمعاتنا يغامر بفقدان هويته، ويكون الطرد والنفي واللعن مصير كل من ينتقد قبيلته وطائفته وحزبه".
"نسيان الإنسان" فصلٌ أخّاذ، بما يحويه من سرديات عن الحياة الخاصّة والعاّمة، وانطباعاته عن بعض الأمور والشخصيّات التي عاصرها، وعن المعرفة الدينيّة وتجربتها، ووسائط نقلها، والطقوس ببنيتها الإجتماعيّة – الدينيّة المرتبطة بأحداث عاصرها المؤلف أو سمعها. الرفاعي هنا يقدم لنا تجربته الدينية الشخصية "الروحية والأخلاقية والعقلية"، ويشرح لنا نمط تدينه الذي هو محصلة رحلة حياة ملونة عبرت محطات متعددة، وهو كما يصفه: "تديّن الحب والجمال الروحي الأخلاقي العقلي". يحدثنا الرفاعي عن دينه فيقول: "الدين الذي اعتنقه هو الإسلام الإنساني، الرحماني، الدين فيه هو الحب، والحب فيه هو الدين". ويقدم لنا سيرة حياته ومنعطفاتها وما واكبها من تكوين وتراكم طويل، وعبور محطات متنوعة، بوصف هذه السيرة مثالاً على رحلة باحث عن نمط من التدين الروحي الأخلاقي العقلي، الذي تشرق فيه الروح في عصر يتفشى فيه تدين بلا روح، والأخلاق في عصر يشيع فيه تدين بلا أخلاق، والعقل في عصر يهيمن فيه تدين بلا عقل، والجمال في عصر تدين مناهض للجمال، والحب في عصر تدين الكراهية.
يلخص الرفاعي هذا التفسير للتدين بما يصطلح عليه بـ"إنقاذ النزعة الانسانية في الدين"، وهو بمفهومه لا يستنسخ أو يطابق ما تشي به بعض الفلسفات التي تتبنى نزعة انسانية مفرغة من المضمون الروحي المعنوي، بل يشدد الرفاعي على أنه يعني بـ "الإنسانية في الدين": (تجديد الصلة بالله، وذلك يبدأ بتجديد الصلة بالإنسان، لكن الغائب الأكبر هو الإنسان، في خطاب معظم الجماعات الإسلامية، وبعض المبشرين بالأديان.. والخلاص والتحرر من "نسيان الإنسان" في أدبيات الجماعات الإسلامية والدعوة للاعتراف ببشريته ومكانته في الأرض، وتصحيح نمط علاقته بربه، وتحويلها من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، إلى علاقةٍ تتكلّم لغة المحبة، وتبتهج بالوصال مع معشوق جميل.
كتاب "الدين والظمأ الأنطولوحي" للدكتور الرفاعي مساهمة فريدة من نوعها، وقيمة في دراسة الإطار العام للدين والتديّن من خلال المعرفة والثقافة والمجتمع. وهو يرسم للإنسان المعاصر لوحة أخّاذة عن المشهد الديني بمؤسساته ومرجعيّاته الثقافيّة والمعرفيّة، وبأفكاره وفئاته، وحياته الدينيّة والروحيّة.
حاول المؤلف دفع شبهة حذف الدين عن المجتمع أو القضاء عليه كما يدّعي البعض، بل يؤكد على توليد فهم آخر للدين غير الفهم والتفسير الأصولي المنغلق، وخير شاهد على ذلك كما شاهدته بأمّ عيني ولمسته من خلال حواراتي مع بعض الشخصيّات الغربيّة، وجود تيّار الدين المسيحي في البلدان المتحضّرة، ولكنّه دين وتيّار ليبرالي ــ عقلاني، متصالح مع أغلب ما جاءت به الحضارة العالميّة.
تطرّق المؤلف إلى بحث غاية في الأهميّة، وهو يدغدغ به مشاعر وإيمان المسلم المتديّن المعاصر الذي يبحث عن الوجود والكينونة والهوية، ونصحه بأنّه لا خلاص إلاّ بالخلاص من أدلجة الدين، لذلك تطرّق إلى شخصية الدكتور علي شريعتي (1977م)، وكيف عمل على "ترحيل الدين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا". يتحدث الرفاعي هنا عن شريعتي بوصفه ممثلاً لتيار الإسلام الأيديولوجي، الذي يمثله عدة مفكرين معروفين، وفي سياق رؤاه صاغت الجماعات الإسلامية مقولاتها، واختزلت الدين بتحويل الدنيوي إلى ديني، وعدم إدراك مهمة الدين المحورية في "إرواء الظمأ للمقدس" حسب قول الرفاعي. وهو ينبهنا إلى أن الدكتور علي شريعتي وغيره من ممن أدلجوا الإسلام: "لم ينبهنا إلى ضلوعنا المهشمة، والى ما يجتاحنا نحن البشر، من: القلق، اليأس، الاغتراب، الضجر، السأم، الألم، الحزن، الغثيان، فقدان المعنى، ذبول الروح، انطفاء القلب، الجنون… إلخ. إنّه كمن يضع بأيدينا مصابيح شديدة الإنارة، ليكشف لنا بؤس العالم. لكن عالمنا الجوّاني الباطن يظلّ مجهولًا مهملًا. لم يتنبه شريعتي إلى أنّه لا ينبغي لنا أن نطارد ظلام العالم، فيما نحن نجهل ظلام أنفسنا، ونتضور لجوع العالم، ونحن لا نشعر بجوع أنفسنا، ونحترق لظمأ العالم، ونحن لا نتحسّس الظمأ الأنطولوجي للمقدس في ذواتنا… إلخ". ويضيف الرفاعي: "شريعتي غالباً ما ينسى الذات، فيقفز للتفكير في المجتمع، يفتّش مباشرةً عن رسالةٍ للدين في المجتمع، بل يريد أن يرى أثراً إيجابياً للدين هناك، يرحّل الدين مباشرةً إلى المجتمع، من دون أن يمرّ بصناعة الذات". الرفاعي يعتقد أن الدين يبدأ ببناء الذات أولاً، ثم المجتمع، إذ يصرح: "الدين لا تتحقق مهمته في المجتمع، إلّا من خلال إعادة بناء الذات، بالمعنى الأنطولوجي العميق. بمعنى أن إفقار الذات إفقار للمجتمع، إعادة بناء المجتمع تبدأ بإعادة بناء الذات".
ومن المؤسف أن الاسلام الأيديولوجي اليوم في العالم الإسلامي، تجسّد في صور بشعة وقبيحة وبأشكال مختلفة، تنتج البغض والكراهيّة وحب الانتقام من الآخر.
يؤكد الرفاعي على مراجعة النصوص والموروثات الدينيّة، من تفاسير قرآنيّة وشروح الحديث وعلم الكلام (العقائد) أو علم الفقه وأصوله  الراسخة في أذهاننا، حيث أصبحت هذه النصوص من المسلّمات، وفي كثير من الأحيان يحرم على الفرد مناقشتها. هذه النصوص وبهذه الرؤى والتفاسير صارت تلغي الأخر، وأصبحت مصدراً للكراهيّة والقتل.
لا يخلو الكتاب من حلاوة "التجربة الدينيّة" التي درسها المؤلف نظريّاً، ومزج مع التجربة العمليّة التي مارسها عمليّاً، فخرجنا لنا بنتائج فريدة من نوعها، مع أنّ التجربة الدينيّة في أغلب الأحيان تكون شخصيّة، ومن الصعب تعميمها على الأخرين، ولكن ممكن الاستفادة منها بأفضل ما يكون.
يحتل المؤلف موقعاً فريداً يؤهله للكتابة عن الدين الأنطولوجي والإيمان الروحي، وعن التجربة الدينيّة التي عاشها، فهو مشارك بارز في المشهد الثقافي العراقي، والعالم العربي الإسلامي، بل عاش برهة من حياته في وسط عالم الإسلام السياسي، وكانت معارفه وأبحاثه هي ثمرة ارتباط وثيق بالأحداث والشخوص والتيارات الإسلاميّة.
كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي" وليمة معرفيّة لكل دارس للدين وباحث فيه، لكلّ من يبحث عن الإيمان في عصر الحداثة، وهو في نفس الوقت مائدة نفحات روحيّة أخلاقية للذين يحملون هموم الدين في العصر الحاضر، بل هو نص مكثف موحي ملهم يضئ روح القارئ وقلبه وعقله.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر − عشرة =

زر الذهاب إلى الأعلى