الدين والحياة

عبد النور بيدار.. مترجم التيه الإسلامي في أوربا

منتصر حمادة

عبد النور بيدار "مصاب بالمشكل الإسلاميّ؛ بل وموجوع على طريقة الكبار، من أمثال؛ كيركيجارد، أو نيتشه، أو محمد إقبال. تشعر حين تقرأه كأنه يكتب بعروقه ودمه، وأنه يبحث عن حل أو علاج، وهنا تكمن سمة المفكرين الحقيقيين". هكذا وصف هاشم صالح المفكر الفرنسي من أصل تونسي، عبد النور بيدار، والذي أصبح أحد الأسماء المسلمة التي تفرض نفسها بشكل هادئ ومشاغب على الساحة الفكرية في فرنسا، وخاصة على هامش الخوض في قضايا الإسلام والمسلمين هناك، وبيان ذلك، أن بيدار يرفض أن يكون الإسلام مُشيطناً، وإلا كيف يمكن أن تقدم ديانة نفسها كمنظومة قانونية وعرفية تفرض نفسها على المجموع في عصر حرية الضمير اليوم؟
ولأن الرجل متأثر بالأعمال التي تنهل من فلسفة الدين، فليس صدفة أن يكون عنوان أحدث أعماله، مخصصاً للمفكر محمد إقبال، حيث يؤكد فيه مثل شيخه الباكستاني منذ قرن، على ضرورة عصرنة الإسلام الملحة، والمقصود بـ"عصرنة الإسلام"، ما يُصطلح عليه تجديد الخطاب الديني، حيث ينهل بيدار من التجربة الغربية التي أفضت إلى الإصلاح، خاصة أن أوربا عاشت مجموعة من الثورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أثرت إيجابياً على المسيحية واليهودية إذ سمحت لهما بإدماج مثل الحرية و التفكير النقدي الجديدة، بينما كان الأمر مختلفاً مع الدين الخاتم، حيث لم يجد المفكرون الذين كانوا من الممكن أن يطوروا العقيدة أي سند. فالنقد الفكري المطبق على المجال الديني متواضع (يرى بيدار أنه معدوم تماماً، ولكن واضح أن هذا حكم متشدد نوعاً ما)، دون أن يُقزم من دول الاستعمار، لأنه كان سبباً في حبس العالم الإسلامي في موقع المدافع والضحية تجاه الغرب، إلى درجة أن جزء من المجموعة الإسلامية في فرنسا يقدمون أنفسهم كأقلية تعاني التمييز من أجل المطالبة بقوانين خاصة.
نزعم أن شخصية بيدار، تعبر عن حيرة عقل مسلمي معاصر، يعيش هناك في الساحة الأوربية، بكل القلاقل المرتبطة بوجود المسلمين في سياق غربي يعج بفلسفات مادية من عدة مرجعيات، بما فيها المرجعية التي أعلنت عن أفول "المقدس المسيحي" (بتعبير نيتشه)، وبالتالي، من الصعب الحسم في طبيعة المواقف الإصلاحية للرجل، بين من يؤيد توجهه الذي يقترب من توجه واجتهادات الراحل محمد أركون، وبين من ينتقده بحدة، مصنفاً إياه في خانة "المرجعية العلمانية" المعادية للدين، كما نقرأ، بشكل أو بآخر، في بعض المقالات التي انتقدت عبد النور بيدار، والصادرة في منابر إسلامية حركية، من قبيل موقع "إسلام أون لاين".. هذا رأي لا يعدو أن يكون نموذجاً من القراءات المشيطنة لمواقف الرجل، وواضح أن محرر المقالة، ليس على دراسة باجتهادات ومواقف هذه الأسماء، التي في جميع الأحوال، بما فيها الأسماء المحسوبة على المرجعية الإسلامية الحركية، يُؤخذ منها ويُرد.
رغم أنه بالكاد تجاوز عقده الأربعين، فقد حرّر بيدار حتى الآن خمسة كتب، جعلته يُصنف ضمن الزمرة الفرنسية المهتمة بقضايا الفكر الإسلامي ومستقبل الإسلام ككل، ومن بين أعماله، "نحو إسلام يليق بعصرنا" (وصدر في عام 2004)؛ "إسلام ذاتي: حكاية إسلام شخصي" (2006)؛ "إسلام بلا خضوع: نحو فلسفة وجودية إسلامية" (2008)، حيث يدعو إلى تشكيل فلسفة وجودية لا إلحادية، وإنما إسلامية بالكامل، وهناك كتابه الذي أحلنا عليه أعلاه، وجاء بعنوان: "انحسار الدين في الغرب: راهنية محمد إقبال" (2010)، حيث يتوقف عند قراءة محمد إقبال لصرخة فريدريك نيتشه عن "غياب الله في أوروبا"، ويُقصد به غياب أو انهيار المقدس المسيحي؛ ثم الكتاب ما قبل الأخير، وعنوانه: "كيف الخروج من التدين التقليدي؟" (2012)، فالكتاب الأخير، ويحمل عنواناً رئيسياً هو "النسّاجون"، مع عنوان فرعي جاء كالتالي: "معاً من أجل إصلاح النسيج الممزق للعالم".
اشتهر عبد النور بيدار عند المتلقي العربي بالرسالة التي حررها بعنوان: رسالة مفتوحة للعالم الإسلامي"، وصدرت في سياق التفاعل المتعجل مع اعتداءات شارلي إيبدو في فرنسا، (نحن في 15 يناير 2015)، ونورد منها بعض مقتطفات مختصرة:
ــ "أيها العالم الإسلامي العزيز، إنني واحد من أبنائك المبعدين، الذين ينظرون إليك من الخارج ومن بعيد- من هذا البلد فرنسا أين يعيش اليوم العديد من أبنائك. أنظر إليك بعيون الفيلسوف الصارمة، الفيلسوف المتشبع منذ طفولته بالتصوف وبالفكر الغربي. أنظر إليك إذن من موقعي هذا على برزخ بين بحر الشرق وبحر الغرب".
ــ "أراك بصدد إنجاب هذا المسخ الذي يدعي لنفسه اسم الدولة الإسلامية ويفضل البعض منح هذا الشيطان اسم داعش، لكن الأمر هو أن أراك تتيه في رفضك الاعتراف بأن هذا المسخ إنما جاء من صلبك، من تيهانك ومن مفارقاتك ومن تمزقك بين الماضي والحاضر ومن عجزك المستديم عن إيجاد مكانة لك وسط الحضارة الإنسانية".
ــ "أيها العالم الإسلامي، إني أرى فيك قوى هائلة مستعدة للنهوض والمشاركة في هذه الجهود العالمية الرامية لإيجاد حياة روحية تليق بالقرن الواحد والعشرين، رغم خطورة مرضك، يوجد فيك نساء ورجال كثر وغير عاديين جاهزين لإعادة تشكيل الإسلام، وإعادة خلق عبقريته بعيداً عن القالب التاريخي، ومن ثم المشاركة في التجديد الكامل للعلاقة التي ربطت لحد الآن الإنسانية بالله".
ــ "توجد في حدودك المترامية بقع للحرية الروحية: عائلات تبلغ إسلام التسامح، والاختيار الشخصي للعمق الروحي، أماكن مازال الإسلام فيها يعطي أحسن ما لديه، ثقافة التشارك، والشرف والسعي في طلب العلم، وروحانية دائمة البحث عن هذه البقعة المقدسة التي يتلاقى فيها الإنسان مع الحقيقة المطلقة التي ندعوها "الله".
المقالة في الواقع، حُرّر مثلها الشيء الكثير في الساحة العربية الإسلامية، ولكن بمقتضى إقامة بيدار في فرنسا من جهة، ومقتضى التفاعل العاطفي مع اعتداءات شارلي إيبدو، ومقتضى النزعة النقدية الحادة التي تضمنتها، حظيت بدعاية كبيرة في الساحة العربية والأوربية، وساهمت في تسليط الضوء على إسم عبد النور بيدار.
مما خلُصَ إليه هاشم صالح في قراءة أعمال عبد النور بيدار، أن مشكلة الأخير لا تكمن في تشخيص أزمة العالم الإسلامي وحسب، وإنما أيضاً أزمة العالم الفرنسي والحضارة الغربية ككل. فالمؤلف يعتقد أن الغرب مأزوم مثلما أن العالم الإسلامي مأزوم، وإن اختلفت نوعية الأزمة في هذه الجهة أو تلك. فالغرب يعاني تخمة الإلحاد المادي المسعور، في حين أننا نحن نعاني تخمة التدين التقليدي الذي يصل إلى حد الاختناق أحياناً. ولكن ما يهمنا نحن أكثر، هو سؤال إصلاح الفكر الإسلامي، حيث يرى بيدار أن المسلمين المحافظين يرفضون الفكرة من أساسها، لأن كل شيء لديهم على ما يرام. وأما نحن، فنتساءل: ما الأشياء التي سنبقي عليها بعد عملية الإصلاح، وما الأشياء التي سنضحي بها بالضرورة؟ والحال أن التديّن المتزمت، المهيمن علينا منذ قرون، لا يمكن أن يظل كما هو إلى الأبد. سوف تحصل قصقصة للفروع الميتة والأوراق الذابلة والأغصان المتخشبة.
الشغب الفكري لعبد النور بديار، شغب متوقع، أخذاً بعين الاعتبار حالة مجتمعية تكاد تصنف في خانة التية، تلك التي تمر منها بعض الشعوب العربية والمسلمة في المنطقة على الخصوص، ومن باب أولى، في الساحة الغربية، وخاصة الساحة الأوربية، من فرط التحديات والإكراهات التي نمر منها جميعاً، وبالتالي طبيعي أن نعاين هذه القسوة في النقد الذاتي، كما جاءت في رسالة الرجل، وفي مضامين بعض أعماله، ولكن انفتاحه على أعمال محمد إقبال، إشارة تفيد أن هذا التيه، يمكن معالجته بأدبيات مفيدة للمسلمين والمسلمين، مادامت تنهل من فلسفة الدين الخاتم.

 
زر الذهاب إلى الأعلى