الدين والحياة

المذهب المالكي في إسبانيا الأموية

 أصبح المذهب المالكي منذ القرن التاسع الميلادي، المذهب الوحيد المعترف به رسميا في قرطبة، وأقامت الغالبية العظمى من فقهائه نفسها حارسة يقظة عليه، حتى انتهوا به إلى الجمود النظري، وكان ذلك في مواجهة النشاط الجم الذي اتصفت به المذاهب الفقهية في المشرق، في الشريعة وعلم الكلام. وكانت الأفكار المناسبة تجيء دائما مصبوغة بلون مالكي، وتأخذ شكلا واحدا يوحي بالحذر.

لقد كان على إسبانيا الإسلامية خلال الحكم الأموي ـ ولم تعد تسمع غير صوت هذا الجرس الوحيد ـ  أن تدير ظهرها بقوة للمذاهب الأخرى، رغم أنها كالمذهب المالكي سنية ومحافظة، وآثرت بدعم من السلطة الزمنية أن تحتفظ بتبعيتها كاملة لمذهب عالم المدينة، ودون ما شك كان هذا يعود أحيانا إلى التأثير الذي مارسه فقهاء المالكية على عاهل قرطبة، في عهدي الإمارة والخلافة على السواء، أو لأن الحاكم الفعلي، وبخاصة أيام الحجابة العامرية، كان يجد في مثل هذا الموقف مكسبا شخصيا وسياسيا.

 ولكن الأندلس شهدت أيضا أمراء عرفوا كيف يتحررون من نفوذ الفقهاء، ويسمحون، بل ويشجعون، بدخول تيارات فكرية جديدة، مادامت لا تمس سلامة العقيدة، ولا تهدد نظام الحكم. وثمة شواهد عديدة على هذا التسلل، وبخاصة في عهد الأمير محمد الأول )852_886م(، والحكم الثاني 961_976م( وكان الفكر المناصر للمذهب المالكي يقلل من قيمة هذه التيارات المتسللة، أو يهمل شأنها، ويطالب صراحة بقصر النشاط المشروع في الأندلس، في مجالات الفقه والتشريع، على المذهب المالكي وحده.

ولتقويم هذا النشاط، من جانب آخر، سوف نعتمد على معومات محدودة الموضوعية، ونلتقي بها لحسن الحظ في مصدرين أهميتهما غير متساوية إلى حد بعيد، ولكنهما متعاصران تماما، وقيمتهما التوثيقية، وبخاصة الأول منهما، من الدرجة الأولى، وأعني به كتاب “تاريخ علماء الأندلس” لابن الفرضي ورسالة ابن حزم الصغيرة في “فضائل الأندلس”، وما أكثر ما يتردد اسم هذا المجادل الإسباني الكبير، وعاش في القرن الحادي عشر الميلادي، تقديرا لفضله فيما أورد من معلومات أصيلة ودقيقة عن الحياة السياسية والاجتماعية في البيئة الإسبانية، وفي بحثه الممتع عن الأسر والقبائل في كتابه، “جمهرة أنساب العرب”، أو في كتابه الأشهر “طوق الحمامة”، أو في كتاب “نقط العروس”، ومفهومه وخطته في هذا الكتاب موجزة للغاية، ولكنه زاخر بالإشارات القيمة عن عالم الأندلس. أما رسالة “ابن حزم” عن “فضائل الأندلس”، فنعرض مركز لمزايا وطنه، وعلى الرغم من إيجازها تلقى نظرة إجمالية ملهمة من النشاط المذهبي في بلده، وهو في هذا لا يقتصر على علماء المذهب المالكي، وإنما يتجاوزه إلى غيرهم من علماء الشافعية والظاهرية، وكان المؤلف نفسه ظاهريا، ويمكن أن نعتبر رسالته هذه وصفا مجملا للحياة الفكرية في الأندلس حتى عصر الطوائف، في مجالات الفقه والحديث وأصول الفقه.

أما “ابن الفرضى” فهو كتلميذه “ابن حزم”، إليه يعود الفضل في أنه لم يوقف كتابه “تاريخ علماء الأندلس”، وهو مجموعة من التراجم، على فقهاء المذهب المالكي وحدهم؛ ولم يسجن نفسه في إطار كتب “الطبقات” الضيق، ولكنه فتح الطريق أمام نفسه واسعا، وسار خلفه كثيرون منذ نهاية القرن الحادي عشر الميلادي مثل: “ابن بشكوال” في كتابه “الصلة”، و”ابن الزبير” في كتابه “صلة الصلة”، و”ابن الأبار” في كتابه “تكملة الصلة”؛ وقد استخدم “ابن حيان”، المؤرخ الأندلسي الكبير، في كتابه “المقتبس”، المعلومات الوفيرة التي جمعها “ابن الفرضي”.

المصدر: الدار – موقع "مركز دراسات الأندلس" 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى