كَسْر الألْسُن …
صلاح بوسريف
الحرية لا تكون بجرعات، فهي ليست دواء، بل شفاء. كما أنَّ اللسان، إذا كان وهو يتكلم، مُرْتَبِكاً، خائفاً، لا يستطيع قول ما يجري في نفس صاحبه من غَيْظٍ وألَمٍ، أو ما فيها من جراح، فهو لسان مقهور، أو مَبْتُورٌ، بالأحرى، لأنه لسان خائف، والخوف، هو مرض من أمراض القهر والاستبداد، وقمع حرية الفكر والرأي، وتحويل الإنسان إلى صدى لا صوت له، ولا لسان.
جميع الأنظمة التُّوتَالِيتَارِية الشمولية، التي عرفها العالم، اختارت كَسْر الألسُن، لأنها كانت أنظمة تخاف الرأي، وتخاف النقد، وكانت أنظمة منهزمة في داخلها، وقوتها تستمدها من القمع والبطش والقهر، وكانت الدول التي تحكمها، هي سجون كبيرة، بقدر ما تبعث الرعب في من يعيشون فيها من الشعوب، فهي تبعث الرُّعْبَ في الحاكمين، وتمنع عنهم النوم، لأنهم لا يثقون حتَّى في بعضهم البعض، وهذه، في حقيقة الأمر، حالة بارانويا، تُصِيب مثل هؤلاء الذين لا يقبلون سماع غير أصواتهم، والمديح وحده هو ما يرغبون فيه، ويَسْتَمِيلُهُم، أما النقد، أو إبداء الرأي، أو حتَّى الملاحظة وإثارة الانتباه، فهي عندهم أمور لا يمكن السكوت عنها، بل تقتضي بَتْر لسان من ينطق بها، لأن الواحد إذا تكلم وانتقد، سيجر الآخرين خلفه. هكذا كانت هذه الأنظمة تحكم، وبسبب هذا انهارت، رغم أنَّ بعضها موجود اليوم، في صورة صارخة وواضحة، وبعضها الآخر، اختار حريات مُقَنَّعَة، مُقَيَّدَة، أو حريات يحكمها الرَّدْع، متى بدا أنَّها تجاوزت الحَدّ المسموح به، أو المُتَّفَق عليه.
لا يمكن لأمة من الأمم، ولا لنظام من الأنظمة، ولا لشعب من الشعوب أن يتطور ويتقدم، ويخرج من ضَنَكِ العيش إلى الانْشِراح والرَّفاه وحياة الأمن والاستقرار، إلا بوجود جو من الحرية، يسمح بالتعبير عن الرأي، دون قيود، وبجو من التنافس والتدافع المُنْتِجَيْن، وباستقلال القضاء، والاحتكام للقانون متى ظهر أن هناك مَسّاً بالقانون، باعتباره اتِّفاقاً، وباعتباره عقداً اجتماعيا، يُلْزِم الجميع، ولا أحد يكون خارجه، كيفما كان، وكائناً من كان. فلا سلطة تعلو على سلطة القانون، كما أنَّ القانون لا يكون، في مثل هذا الوضع، عُرْضَةً للتأويلات التي تحذم طرفاً دون طرف، أو تستعمله الدولة لتخدم به أغراضها ومصالحها، أو تحوله إلى أداة للتَّخْوِيف والترهيب. فالديمقراطية، هي كل لا يُجَزَّأ، وهي ثقافة وتربية، بقدر ما تتشبَّع بها الشُّعوب، بقدر ما يكون الحُكَّام، أول من يتشبَّع بها، ويدافع عنها، ويحميها من التغيير والتبديل، أو من التأويل والتزوير، أو القراءات الطَّائِشَة الفاسدة والمُغْرِضَة.
وفي هذا السِّياق، أرى أنَّ ما حققناه، في المغرب من إنجازات في هذا المجال، هو، أوَّلاً، نتيجة نضالاتٍ هي ما أدَّى إلى أن نأخذ ما أخذناه، سواء على مستوى التشريعات والقوانين، أو على مستوى المكتسبات الاجتماعية والسياسية، وهو ماخلق جواً من الحرية في الرأي والتعبير، بعكس ما يوجد في أكثر من مكان عربي. وثانياً، أنَّ المغاربة، شرعو في فهم قيمة الحرية، وفي ما تلعبه من أدوار في نشر الأمن والاستقرار، رغم أنَّ هامش الحرية ما زال ضيِّقاً، أو هكذا يظهر، بين الفينة والأخرى، حين تقوم أطراف ما في السلطة بشدِّ الحبل، وهو نوع من التذكير بأننا هنا، لا تَنْسَوْا ذلك، كما يقولون لنا من خلال بعض ما يبعثون به من رسائل. لكن، جو الحرية هذا، ما يزال عندنا مُفْعَماً بالتَّوتُّر، وبضيق صدر المسؤولين، وباستعمالهم للقانون بما يقرؤونه هُم، لا بما ينبغي أن يكون عليه القانون، خصوصاً في وضع الصحافة والإعلام. ثمَّة وقائع وأحداث، في هذا الباب، تشي وتُشِيرُ إلى هذا الخلل وتفضحه. ولعلَّ الاعتقالات التي تطال بعض الصحافيين، هي التعبير الصريح عن هذا التشوش والارتباك، بل الاضطراب في فهم ما تعنيه حرية الرأي والتعبير.
لا يمكن تحويل الصحافة إلى لسان ناطق باسم الدولة، فللدولة من يتكلمون باسمها، ولا يمكن جعل الصحافة تقول نصف الحقيقة، فهذه لن تكون صحافة، بل نصف صحافة، ولا يمكن للصحافي أن يكتب، ولسانه أو يده ترتعش، فهذا قهر وقمع وتخويف. بدون إعمال القوانين، وبدون استقلال القضاء، وبدون إشاعة ثقافة الحوار والنقد والنقاش، ونشرها في المدارس، وفي وسائل الإعلام، بمختلف مشاربها، وفي نفوس الناس، فإن الحرية، ستكون، في مثل هذا الوضع، حرية مغشوشة، مُلَفَّقَة، كاذبة، تشبه قشَّة الغريق، التي ما إن يتشبَّث بها، حتَّى يكون حكم على نفسه بالإبادة والغرق.