بقلم: ياسين المصلوحي
بعد مصادقة الغرفة الثانية للبرلمان المغربي في الثالث من فبراير 2025 على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب وإعادته لمجلس النواب للمصادقة النهائية، يقترب إسدال الستار عن أطول مسلسل تشريعي في تاريخ المملكة المغربية.
فقد نص أول دستور مغربي لسنة 1962 على ضمان حق ممارسة الإضراب، وربط هذا الدستور وكل الدساتير من بعده على توضيح كيفيات وشروط ممارسة هذا الحق بإصدار قانون تنظيمي يوضح ذلك. إلا أنه وبعد مرور 28 تشكيلة حكومية بعد دستور 1962، لم يتم إصدار هذا القانون التنظيمي إلا في عهد الحكومة الثامنة والعشرون، بعدما تم وضع مشروع القانون التنظيمي في أواخر عمر حكومة عبد الإله بنكيران، الذي وضعه مجبرًا نزولًا عند تعليمات الفصل 86 من دستور 2011، الذي نص صراحة على ضرورة عرض مشاريع القوانين التنظيمية الواردة في الدستور على البرلمان قبل نهاية الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور هذا الدستور. وبعد عرضه على البرلمان، تم إدخال المشروع إلى المجمد منذ سنة 2016، حيث لم تكن لحكومة سعد الدين العثماني الشجاعة لمناقشته ومحاولة إخراجه للنور، ولعل أبرزها إضرابات الأساتذة التي كانت ماراثونية أصابت مجال التعليم بالشلل خلال سنة 2023، وكذا إضرابات قطاع الصحة وقطاع المحاماة وكتابة الضبط بالمحاكم. كل هذه المتغيرات ألزمت الحكومة بضرورة إخراج قانون الإضراب، لكن بأي تكلفة اجتماعية وسياسية؟
يرى البعض أنه، على اعتبار أن الإضراب حق دستوري وحق من الحقوق الكونية التي تضمنها المواثيق والمعاهدات الدولية، كما أنه من وسائل ضغط التمثيليات النقابية والعمالية على أرباب العمل والمقاولات، بل وحتى في القطاعات الحكومية من طرف الموظفين، وبالتالي فإن أي تضييق على ممارسة هذا الحق سيجعل الجهة التي قننت ذلك وصادقت عليه في مواجهة مباشرة مع الجماهير الشعبية. لذلك كان يعتبر القانون التنظيمي للإضراب بمثابة كرة نارية يحاول كل فاعل سياسي أو مسؤول حكومي التهرب منها حتى لا يتحمل وزر تنزيلها والمسؤولية التاريخية في تقنينها. حيث تعددت المواقف بخصوص حق الإضراب باختلاف المواقع. فبعدما كان حزب العدالة والتنمية، الذي يتوفر على ذراع نقابي، يدعو إلى الإضرابات أيام المعارضة دون الاقتطاع من أجور المضربين، أصبحت الحكومة التي يقودها نفس الحزب تشرع للاقتطاع من أجور المضربين عندما أصبحوا في موقع الأغلبية، بل والأكثر من ذلك، كانت رموز الحكومة تتخذ الإجراءات في حق الموظفين والعمال وتنزل إلى الشارع في احتفالات عيد الشغل للتنديد معهم ضد نفس الإجراءات!!
وبالرجوع إلى نص النسخة التي تمت المصادقة عليها من طرف مجلس المستشارين، يلاحظ بعض المتتبعين أن هناك تضييقًا على ممارسة هذا الحق الذي تم ربطه بعدة آجال زمنية يجب احترامها مع ضرورة الإخبار مسبقًا وانتظار التصريح الذي قد يأتي أو لا يأتي. زد على ذلك التنصيص على اقتطاع أجور المضربين، وهو ما يشكل تخفيفًا من الضغط المفروض خصوصًا على المقاولات الخاصة. إضافة إلى حصر الجهات الداعية للإضراب في هيئات معينة وبشروط محددة حسب التمثيليات ومقرات العمل ومجالاته. في حين نجد أن الإضرابات الناجحة مؤخرًا لم يتم الدعوة لها من طرف هذه التمثيليات بسبب تراجع منسوب ثقة الجماهير فيها، والبحث عن بدائل مجتمعية جديدة تتجلى في التنسيقيات التي، رغم عدم توفرها على إطار ومرجع قانوني، إلا أنها تتمتع بدعم جماهيري، حيث تم إقصاء هذه الفئة من المكونات المجتمعية كجهة داعية للإضراب. لكن هناك بعض النقاط المضيئة التي جاء بها مشروع القانون التنظيمي، المتمثلة في عدم اعتبار المضرب كمتغيب غير مشروع عن العمل، وبالتالي عدم خضوعه للمساطر التأديبية التي تبدأ من الاستفسار ويمكن وصولها إلى العزل. كما أنه نص على عدم تعويض العامل المضرب بمعامل آخر يحل محله بصفة نهائية.
يبقى العنصر الخطير الذي رافق عملية التصويت والمصادقة على مشروع القانون التنظيمي للإضراب هو نسبة المصوتين، حيث، وللأسف، تم التصويت على هذا المشروع من طرف 41 عضوًا بالموافقة و7 أعضاء بالرفض، أي ما مجموعه 48 عضوًا من أصل 120 مستشارًا، أي بنسبة أقل من %40 من الأعضاء. وكان قد صادق مجلس النواب قبله على النسخة الأولى بنسبة أقل من %32 (124 نائبًا بالموافقة و41 نائبًا بالرفض من أصل 395 نائبًا). فكيف يمكن لمشروع قانون تنظيمي بهذه القيمة والمكانة أن تتم المصادقة عليه بمثل هذه النسب الصغيرة تمثيليًا؟!
ترى جهة أخرى أنه لا يمكن إنكار أن هذا القانون التنظيمي يلعب دورًا كبيرًا خصوصًا على المستوى الاقتصادي، حيث أن إقراره سيبعث جواً من الطمأنينة والارتياح خصوصًا بين صفوف المستثمرين ورجال الأعمال والشركات الكبرى التي ستتأكد من ضمان حقوقها، وسيساعد في الحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد الوطني. كما من شأنه خلق توازن بين مصالح الطبقة الشغيلة وأرباب العمل بما يضمن نوعًا من التوازن الاجتماعي. كما أن مجرد المصادقة على هذا القانون التنظيمي ستثبت مكانة المغرب عالميًا في مجال حقوق العمال والتنظيم المهني، مع ضمان مبدأ استمرارية المرفق العام وتوفير الخدمات الضرورية للمجتمع وحماية صحة وسلامة المواطنين.
وفي الأخير، يبقى هذا المشروع بحاجة لنصوص قانونية أخرى مواكبة تشكل أذرعًا له وآليات لتطبيقه، مثل القانون المنظم للنقابات المهنية ومراجعة مدونة الشغل بما يتماشى مع مستجدات الوقت الراهن، وكذا النصوص التنظيمية المشار إليها في صيغة مشروع القانون التنظيمي نفسه (المادة 12 على سبيل المثال).