الرأي

التربية على الحوار والنقاش والتفاوض

صلاح بوسريف

لعل بين ما يُفْسِدُ العلاقة بين الأنظمة والشعوب، هو غياب الحوار والنقاش، أو غياب التربية على الحوار والنقاش عند الطَّرَفَيْن. الأنظمة لا تتنازل عن سُلَطِها، وعن تلك الأنا المُتَعَجْرِفَة التي تختبيء خلف القانون تارة، وخلف استعمال العنف «المُبَرَّر» في نظر السلطة، كما هو شأن القانون حين تعمل الأنظمة والدول على تبريره بتأويله، أو متى رغبت أن يكون في صالحها، لا في صالح غيرها من الخصوم والمعارضين. والشعوب، بدورها، تُفْرِط في استعمال كل الوسائل لإخضاع الأنظمة أو الدول، وانتزاع ما يمكن انتزاعه منها، ولا تَهُمّ الوسيلة، لأنها، تكون، في نظر الشعب مُبَرَّرَة بما تسعى إليه من غايات.

الحوار بين الطَّرَفَيْن، هو حوار مُتَشَنِّج، حَنِقٌ، فيه كثير من التَّوَجُّس والحيطة والحذر، كل طرف يَرْتاب في الطرف الأخر، ولا يصدق ما يقوله، أو ما يُبْدِيه من تَفَهُّم، أو رغبة في التنازل، ما يجعل التفاوض يكون تفاوضاً شاقّاً وصعباً، وقد يفضي إلى سقوط طرف في فخ الآخر، وغالباً ما تكون الأنظمة والدول، هي من تُبادر إلى إفراغ الحوار والتفاوض من جوهره، وتُماطل في تحقيق المطالب، وما تَمَّ الاتِّفاق عليه.

ما يجري في فرنسان، وفي الجزائر، وفي العراق، وفي لبنان، مثلاً، هو صورة جلية لهذا النوع من التوتر والتَّشَنُّج، ولهذا النوع من فقدان الثقة بين الجبهتَيْن. الدولة تسعى لربح الوقت، واللعب على يأس الشعب ووصوله مرحلة من التفكك والإحباط، تجعل من المتظاهرين يعودون إلى بيوتهم خاسئين خاسرين، والشعب، أو من يتظاهر من فئاته العريضة التي لا تخضع لهيمنة الدولة أو الأحزاب الموالية للدولة أو للنظام، يُصِرّ على تحقيق مطالبه، التي باتت، اليوم، أكثر جذرية وإلحاحاً، من ذي قبل، كون المظاهرات لم تعد تجري في الخفاء، بل هي اليوم تجري ليس فقط في بيروت أو باريس، أو الجزائر العاصمة، أو بغداد، بل تجري في جيوبنا وبيوتنا ومقاهينا، وحتى في الحافلات والقطارات، وفي كل لحظة وثانية، بصورة مباشرة، وكل تجاوز أو سَطْو على المتظاهرين، وتعنيفهم أو قتلهم، يصبح وثيقة وحُجَّة، لا يمكن إخفاء آثارها، أو المُراوغَة في تأويلها، لأنَّ العالم كله يرى ما جرى، وما يدور في الساحات العامة.

ما كان حدث في مظاهرات في المغرب عام 1965 وفي بداية ثمانينيات القرن الماضي، جرى فيه إطلاق الرصاص، وقتل المتظاهرين، وكان فيه تعذيب وتنكيل بمكن زُجَّ بهم في السجون، لكن هذه المُظاهرات، شهودها كانوا جزءاً من ساحة التظاهُر، وحُجَجهم، هي ما رأوه، لا ما هو مُصَوَّر ومُوَثَّق، باستثناء ما هو في حوزة الدولة التي كانت تصور كل شيء، وتتستعمله ضد المتظاهرين. لا دليل، رغم أنَّ الدولة المغربية اعترفت ببعض المقابر الجماعية، وكشفت عن مواقعها، وكذلك ما كان يجري في السجون السرية من تعذيب وقهر وقتل. الأمر اليوم، هو غير البارحة، السماء لم تعد تُخْفِي ما يجري تحتها، وأصبح كل مواطن قناة قائمة بذاتها، مهما كان الخلل والعطب في استعمال التقنية، وبأي معنى من المعاني. وهذا في ظننا، أصبح يفرض على الدولة أن تخرج من ماضيها، لِتُعِيد ترتيب أوراقها، في التفكير في طُرُق أخرى في الحوار والنقاش والتفاوض، بدل القهر والتهديد، واستعمال القوانين في غير مجراها، وأن تعمل على إعداد المدارس والجامعات لنوع من التربية الجديدة على أخلاق الحوار والنقاش والاختلاف، وعلى الأسس الجوهرية لمعنى الديمقراطية والرأي المُخالِف، وأن تعمل الدولة على تأهيل نفسها، قبل غيرها، من خلال مؤسساتها، وإداراتها، وموظفيها، وأطرها، ومسؤوليها، وإعلامها، وصيغ وأشكال خطاباتها، وسلوك بوليسها وأمنها، لمثل هذا النوع من التربية، الذي هو أحد طرق نزع فتيل التَّشَنُّجات، وما يجري من اضطرابات واحتكاكات بين الدولة والمُطالبين بحقوقهم. وهذا ينطبق على الشعب، الذي عليه أن يعي، أنَّ التظاهر ليس حرباً، وليس خراباً، وليس حجة لبث الفوضى والسطو على ممتلكات الغير، ولعل هذا ما أصبحنا نراه في كثير من المظاهرات والاحتجاجات التي بات مُنَظِّمُوها، هم من يحمون ممتلكات الناس، ويرفعون شعار «سلمية»، حتَّى لا تستعمل الشرطة وقوات الرَّدْع، أي شيء من هذا القبيل، حجة للانقضاض على المتظاهرين، وتحويل التظاهر في قنواتها، وحملاتها الإعلامية إلى مسٍّ بأمن الدولة واستقرارها، كما جرى في سوريا، حين سعى النظام إلى جر الناس لحمل السلاح، رغم أن المظاهرات كانت في أشهرها الأولى سلمية، لا سلاح فيها.

التربية على الحوار والنقاش، وعلى قواعد التفاوض، كانت النقابات والأحزاب من قبل من تقوم بها، انحسار دور النقابات والأحزاب، وعدم ثقة الشعوب بها، جعل الشارع يملأ الفراغ، فالأحزاب عينُها باتت على السلطة، وعلى السباق نحو المناصب والكراسي، ولم يعد يَعْنِيها ما يجري في الواقع من مشكلات، الدولة استثمرت هذا الفراغ لمُفاقَمَتِها، دون أن تعي، لا هي ولا الأحزاب، أنَّ الاحتقان، هو مثل دُمَّلٍ، ما لم نَرْعَه ونُعالجه في بداياته، فهو يُصيب الجسم كاملا بالسَّهَر والحُمَّى، ويجعله يسقط ويتهاوى، حيث العلاج يصبح غير ذي جدوى، ولا طائل منه، لأن الوقت يكون فات.

زر الذهاب إلى الأعلى