المواطن

إبراهيم الفاسي الفهري يكتب: نحن مارين ولويسا وإمليل

* إبراهيم الفاسي الفهري
منذ الإعلان عن فاجعة إمليل الفظيعة والمروعة، وبصفة أوسع منذ تسليط الضوء على الطبيعة الإرهابية لهذه الجرمية المزدوجة النكراء، عبّر المغاربة بعواطفهم الجياشة وبما يشبه الإجماع عن صدمتهم وامتعاضهم الصادق والعفوي. وعلى غرار كثير من أبناء وطني، اجتاحني ألم حقيقي منذ عدة أيام بحكم حقارة الفعل المرتكب والمقزز والصادم. وبينما أكتشف صور وفيديوهات هاتين الشابتين وهما يستمتعان بحياتهما، أحسست مثلي مثل أغلب المغاربة بانقباض في قلبي وأنا أرى حياتين سُرِقتَا وقدرين هُشِّما. وفي لمحة زمنية خاطفة اعتقدت أني أعرف مارين ويلاند ولويسا فيستيراجير جيسبيرسين، البعيدتين عني قريبتين مني في نفس الوقت منذ الساعة التي تعايشت فيها أمة مسلمة في كليتها واجتمعت لرثاء أجنبيتين اثنتين أريقت دماؤهما بشكل مفجع على تراب أرضنا.
بعد ذلك، وأنا أتابع شريط الأحداث على شبكات التواصل الاجتماعي، وقع نظري على صور هؤلاء الجبناء القبيحة، خونة الدين وهواة قطف الأرواح، ضعاف النفوس ممن يَنقَضّون في جنح الليل البهيم الأليل على "فرائس" سهلة ورقيقة، من دون حماية وأقل عددا منهم بمرتين. ففي الوقت الذي تفوح فيه من صور مارين ولويسا رائحة الحياة والسعادة والتفاؤل، ينبعث من صور مرتكبي هذه الجريمة البشعة والمروعة ممن ينتمون لنفس جيل الضحيتين الظلام والحقد والموت. إنهما قدرين متعارضين، ومسارين مختلفين لحياتين متوازيين بصورة كاملة التقيتا لسوء الحظ في ذلك المكان المهجور والمعزول من جبال الأطلس، من أجل موعد "إمليل" الجنائزي.
الإرهاب لا هوية له. الإرهاب لا وجه له. الإرهاب لا لون له. الإرهاب لا رائحة له. الإرهاب لا جنسية له. الإرهاب لا دين له حتى. الإرهاب هو التعبير المقزز عن الجبن الإنساني. وهو يجد جذوره في الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي. ويتقوى بانتشار طقوس الجهل، في حين أن ديننا الحنيف مبني على العلم والاجتهاد. كما أن بيئته الخصبة هي الإحباط وانعدام التربية وغيابها. فالمغرب أكثر من أي بلد مسلم آخر، لا مكان في هويتنا لثقافة الكراهية ورفض الآخر والتشدد الدينية. ومنذ سنوات الثمانينيات ونحن نتعرض لخطاب متشدد تبنته أقلية مجهرية من المغاربة. وحتى لو كان مرتكبو مأساة أمليل مغاربة، فإن برنامج تشغيلهم ومرجعيتهم ليست كذلك، وهو ما أثبتته "البيعة" التي قدموها لـ "داعش".
شخصيا أنا أرفض اختزال هذه الجريمة المزدوجة في مجرد حدث يومي عادي الهدف منه إرواء ظمئ أربعة إرهابيين متدربين عثروا على فرصة، هي من دون شك وليدة الصدفة لكن لنترك التحقيق هو ما يقرر، لكي يقضوا "أمسيتهم الكبيرة". إن العنف المروع لهذه الجريمة الموثقة بالفيديو والمنتشرة في وسائط التواصل الاجتماعي، وأيضا الشعور الذي ولدّته في داخل المغرب وخارجه، يعطي هذه الواقعة المأساوية طابعا استثنائيا. و أرفض بنفس الطريقة التفسيرات التبسيطية الرامية إلى تأكيد أن المغرب أصبح متطرفا وبأن شذاذ الآفاق اختطفوه وبأن كثيرا من المغاربة هم إرهابيون محتملون في المستقبل. فلنتحل بقليل من الجدية! فإذا ما كان المجتمع المغربي الحالي يعرف صداما بين موجة أصولية كامنة (لكنها غير عنيفة) وتعبير متنامي لرغبة حقيقية في التحرر، وربما وصل الأمر حد اشتباكهما معا، فنحن مع ذلك ما نزال بعيدين على الواقع "المتقهقر" المهين على عدد كبير من الدول الإسلامية، ولا سيما روح التسامح والانفتاح الضاربان بجذورهما في تاريخ المملكة المغربية التي تستهدفها "داعش".
ولهذا يبقى هذا الفعل الفظيع معزولا. فما رد الفعل الصادق وإجماع المغاربة من كل الطبقات الشعبية المختلفة ورفضهم القاطع للإرهاب إلا تذكرة لكل من تسول له نفسه التشكيك في ذلك. المغرب كان دائما وسيظل بلدا آمنا بفضل الترسانة الكبيرة لمكافحة التطرف العنيف التي تغطي مجموع ربوع بلدنا والمتمثلة في مراقبة الحقل الديني، خلافا لعدد كبير من الدول المجاورة، بالإضافة إلى يقظة أجهزتنا الأمنية وخبرتها ومعارفها التي نفتخر بها أيما افتخار.
منذ أيام وأنا أرى عبارات "Sorry" و"Pardon" تؤثث شبكات التواصل الاجتماعي موجهّة للدنمارك والنرويج ولأقارب الضحيتين. وأنا فخور بهذه العواطف الجياشة والصادقة التي تحملنا منذ ثلاثة أيام وبهذا الرفض القاطع لهذا العار والشنار والذي أظهره المغاربة بكل حزم وعزم. لكن أستمحيكم عذرا في أن أتطرق هنا لتشكيكي في وجاهة التقدم بالاعتذار، مع أني أتفهم بطبيعة الحال حاجة عدد كبير من المغاربة، وأنا آخرهم بالمناسبة، لتفريغ الصدمة القوية. الاعتذار عن ماذا؟ عن كوننا مغاربة؟ أم عن كوننا مسلمين بينما كان هؤلاء المتوحشون يلطخون الإسلام؟ أم هو عن كوننا لم نستطع حماية مارين ولويسا؟ لماذا نعتذر علما أن "الخطر صفر" لا وجود له فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب؟ لا وجود له في المغرب ولا في غيره، ومعلوم أن أي دولة اليوم ليس لها أن تدعي أنها في مأمن عن هذا التهديد العالمي. فعلى امتداد عشر سنوات، لم تشهد المملكة "غير" عملتين إرهابيتين خلفتا 19 ضحية، وفي نفس الوقت شهدت فرنسا فيه 14 هجوما (ارتكبها في المجمل فرنسيون ولدوا في فرنسا وعاشوا دائما في فرنسا) وأزيد من 230 ضحية. لماذا إذا نعتذر في وقت تحسدنا عدة دول غربية وإسلامية على استراتيجيتنا الصائبة في مكافحة التطرف العنيف وعلى نجاعة أجهزتنا المتخصصة في مكافحة للإرهاب؟
هل هو يا ترى مجرد شكل من أشكال "الاعتذار" بصورة غير واعية تجاه الغرب، لتجنب عدم خلطنا مع تلك النعاج السود الظلامية التي لا دين لها ولا قانون ولا تمثلنا حتى؟ علينا في المقام الأول الاعتذار من أنفسنا لأننا من فرط الإكثار من استخدام "#" و"أنا" المرتبطة بالاعتداءات الإرهابية التي أدخلت عددا كبيرا من الدول في فترات حداد خلال السنوات الأخيرة، نسينا أن هذا الأمر سيصلنا لا محالة. وربما على بعضهم أيضا –وهو يرفض بدافع الخوف أي صورة من صور المساءلة الذاتية لمواجهة هذا الحقيقة المتولدة عن انحراف مخيف لديننا حملت كبره أقلية صغيرة– الاعتذار عن كونه فضل بصورة مفرطة الاقتناع بنظريات المؤامرة المبنية على رفض الإرهاب الإسلامي، وذلك في وقت ضربنا فيه في عقر دارنا بطريقة جد بسيطة وأكثر بدائية ووحشية.
وكمغربي، لقد قطّعت هذه الفاجعة التي لا أجد وصفا لها كل أوصالي كما هو حال الكثيرين. ويجب النظر إلى مأساة إمليل على أنها نداء إلى رص الصفوف. كما يفترض فيها أن تقوي عزيمتنا لنحارب جميعا الكره والتطرف في كل أشكاله وتعابيره من دون رحمة أو شفقة، ومن دون وضع أي استثناءات أو القبول بأي ظرف من ظروف التخفيف. "بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم"، ابن سينا.
  ماتخسرش ليا بلادي#
*مؤسس معهد " أماديوس"

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى