قراءة في كتاب:”تقريب الفقه المالكي” للأستاذ عبد الله معصر
الدار/ خاص
قدم الدكتور ادريس غازي، خريج دار الحديث الحسنية، قراءة لكتاب “تقريب الفقه المالكي” لمؤلفه الدكتور عبد الله معصر، الأستاذ الباحث بالرابطة المحمدية للعلماء. وفيما يلي نص المقال.
تعتبر مسألة تقريب العلوم من الظواهر المعرفية التي اشتغل بها علماء الإسلام على اختلاف مشاربهم واختصاصاتهم، رغم أن الموسوعية كانت السمة الغالبة عليهم وعنوان رسوخهم العلمي في سائر أطوار المعارف الإسلامية.
كما اختلفت أشكال وصور تقريباتهم العلمية تبعا لاختلاف مقاصدهم التقريبية التي تراوحت بين تيسير التعليم والتحصيل، أو تيسير التواصل والتداول المعرفي للعلم المقرَّب، أو إبراز الوجوه التكاملية الممكنة بين العلم المقرَّب وغيره من شعب المعرفة الإسلامية العربية. والذي ينبغي لفت الانتباه إليه أن التقريب ليس بالأمر اليسير أو الهين فلا يقتحم مجاله إلا من استجمع آلات التفقه المشرفة على العلم المراد تقريبه.
وفي هذا السياق التقريبي الأصيل والراسخ في الممارسة التراثية الإسلامية يندرج كتاب “تقريب الفقه المالكي” لمؤلفه الدكتور عبد الله معصر، الذي يعد من علماء الوقت القلائل الذين عنوا بسؤال التقريب واعتنوا بتحقيقه في جانب من جوانب العلم الشرعي الإسلامي ألا وهو الفقه ممثلا في التجربة المالكية.
قراءة في كتاب:”تقريب الفقه المالكي” لفضيلة الدكتور عبد الله معصر
ولقد قصد المؤلف إلى تقريب الفقه المالكي من خلال تمهيد أحكام الطهارة والصلاة، مع انعقاد العزم على أن يشمل تقريبه سائر أبواب الفقه ومباحثه إن شاء الله، وإذا كان المقصد التعليمي حاضرا بقوة في توجيه عمل المؤلف، حيث الإشارة القوية إلى أن الغرض هو تيسير المادة الفقهية “لمن يعسر عليهم الرجوع إلى الأمهات والدواوين والمبسوطات والمطولات وشروح المختصرات والحواشي”[1].فإن للمؤلف مقاصد أخرى من محاولته التقريبية الموفقة بجانب المقصد التعليمي أو التربوي المشار إليه، مقاصد ينظمها عنوان واحد هو إحياء داعية التفقه والاجتهاد لدى المشتغلين بالعلم الشرعي، وهو مطلب جدير بالنشدان وجمع الهمة لتحقيقه، ولا سبيل إلى ترجمته عمليا- حسب المؤلف- إلا عبر المداخل الاصلاحية التالية:
– وصل فروع الفقه المالكي بمظانه الاستدلالية، وذلك قصد الوقوف على مآخذ العلماء ومناهجهم الاستنباطية.
– تربية الذوق والملكة الفقهية لدى طالبي العلم الشرعي، وهذا أمر لا يتحصل إلا بالمراس ومعاينة الأدلة، والوقوف على طرق الاستنباط ومناهج الاستدلال.
– ترسيخ دعائم وثوابت الهوية المغربية من خلال التمكين لجانب من جوانبها ألا وهو المذهب المالكي، الأمر الذي يفيد في ترسيخ التدين القويم، ودرء كل أشكال الانحراف والشذوذ فكرا وممارسة.
ولعل في الأمر الأخير إشارة واضحة إلى مقصد آخر تغيّاه المؤلف في تقريبه ألا وهو المقصد الأخلاقي؛ إذ قوام الفقه عنده هو الأخلاق؛ إذ لا قيام لفقه بدون تخلق، ومما يوضح هذا الأمر قوله في تمهيد مؤلفه: “يعتقد كثير من الناس أن الفتوى صناعة يمكن أن تتعلم بمجرد معرفة الأحكام والاجتهادات، أو بذل أي جهد عقلي حتى ولو أوصل إلى الآراء الشاذة أو المتسيبة أو المتطرفة، والحقيقة أن المعرفة الفقهية وحدها لا تكفي، بل لابد من تحصيل الشروط الأخلاقية”[2].
وتتلخص الشروط الأخلاقية الضابطة للفقه عنده في أمرين:
– تحصيل الأهلية الأخلاقية الكاملة والتي من مقتضياتها الأخذ عن أهل الوراثة الكاملة وصحبتهم[3].
– درء الآفات الأخلاقية المنافية للتفقه؛ كالعجب وطلب الرئاسة والفخر بالفتيا واشتهاء الكلام[4].
وفي معرض بيانه للأساس الأخلاقي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإمام مالك يقول المؤلف: “إن تدبير الشأن الأخلاقي داخل المجتمع جزء من مسؤولية العلماء، إلا أن هذا التدبير يحتاج إلى أن يكون العالم متحليا بأخلاق العلم والرحمة والرأفة واللين، وهي أخلاق إذا صاحبت التوجيه والإرشاد كان لها تأثير، بخلاف أخلاق الفظاظة والعنف والقسوة، فقد تكون نتائجها عكسية على المجتمع ووحدته، ولم يعدَّ صاحبها من أهل العلم الربانيين”[5]. وقد عضد المؤلف إشاراته القوية بنقول فريدة ودرر نفيسة انتقاها بعناية فائقة من مأثورات الإمام مالك رضي الله عنه وأعلام المذهب، وفي ذلك تأكيد لما سبق المؤلف أن دعا إليه من ضرورة قراءة سير الأئمة قراءة أخلاقية واصلة بين علم المرء وعمله. حيث يقول:
“إن الناظر في سير الأئمة الأعلام يسترعي انتباهه ذلك الطابع الأخلاقي الذي كان صفة ملابسة لسيرهم، وهي حقيقة تؤكد أن اشتغالهم بالفقه لضبط أحكام الجوارح لم يكن ينفصل عن الحكم الأخلاقي الذي يوجه ويضبط الجوانح، بل إنهم كانوا يرون أن كل بناء فقهي لم يؤسس على أساس أخلاقي لا يجدي صاحبه نفعا”[6].
وفي هذا الإطار التقريبي العام جاءت مباحث الكتاب وفصوله المنتظمة في بابين موفية لمقاصد المؤلف من تمهيد أحكام الطهارة والصلاة على مذهب الإمام مالك، كما جاء المدخل التمهيدي جامعا للضروري من تاريخ المذهب ومعرفة أصوله واصطلاحاته، مثلما جاء تقريب المادة الفقهية المدروسة بالخواص التقريبية التالية:
ـ تعريف المصطلحات الفقهية ببيان دلالتها اللغوية والاصطلاحية.
ـ إيراد الأحكام موصولة بأدلتها الواضحة والقريبة المأخذ.
ـ الاقتصار في الإحالة على مظان الفقه المالكي على الأمهات والكتب المعتمدة في المذهب.
كل ذلك بأسلوب علمي رصين، يبرهن فيه المؤلف على ذوق فقهي رفيع، وقدرة فائقة على تذليل العقبات وتحصيل الاستئناس بالمادة الفقهية لدى طلاب العلم الشرعي، ولعل في هذا الجهد العلمي المشكور، إيذانا باقتحام رحاب التقريب وخوض غماره وتوسيع مجاله ليشمل سائر شعب المعرفة الإسلامية العربية، وفي ذلك ترسيخ للصلة مع الموروث واستشراف لآمال ومآلات الغد الموعود.