الرأيسلايدر

القانون المالي التعديلي … ألم يكن بالإمكان أفضل مما كان ؟

بقلم : يونس التايب

من المؤكد أن الحكومة تتجه إلى الظفر بمصادقة البرلمان المغربي على مشروع القانون المالي التعديلي الذي تم تقديمه يوم الأربعاء 08 يوليوز 2020، بفضل أغلبيتها النيابية المريحة. لكن، مع كامل الأسف، في الوقت الذي كان الأمل معقودا على أن نعيش لحظة وطنية تمنحنا جرعة أمل سياسي مشبع بقيم تضامنية تعزز الثقة التي أحيتها الروح الطيبة لقرارات الدولة بشأن تدبير الجائحة منذ بداياتها، وتتجاوز حسابات عدد المصوتين و اعتبارات التوازنات المالية و التقنية الاعتيادية، تأكد أن هذا القانون لن يكون علامة فارقة في تاريخ القوانين المالية ببلادنا. من جهة، لأنه عجز عن تحقيق التوافق بين مقترحات الأغلبية والمعارضة لنخرج بمشروع واحد نجد فيه أنجع ما اقترحه الجميع. و من جهة ثانية، عجز عن جعل المواطنين يبتهجون بإجراءات تضمن تخفيف الوقع الاجتماعي للأزمة الحالية على الفقراء و على الأشخاص الذين وجدوا أنفسهم في وضعية هشاشة وانقطاع للدخل.

صحيح أن الوضع صعب و دقيق، وأن الإكراهات التي حاصرت عملية صياغة مشروع القانون المالي التعديلي كثيرة ومتنوعة، سواء من حيث تراجع المداخيل المتوقعة بشكل كبير جدا، أو من حيث حجم الخصاص الاجتماعي الذي عمقته الأزمة، أو من حيث غياب وضوح الرؤية حول أفق تطور الاقتصاد العالمي خلال الستة أشهر المقبلة. و صحيح، أيضا، أن الارتباك يتسيد المشهد في العالم أجمع، و الكل متوجس من استمرار الجائحة الوبائية لفترة طويلة في غياب لقاح مضاد، أو في حالة تطور الفيروس و دخل العالم في موجة ثانية من الوباء، وهي كلها أمور لا تسهل ضبط التوقعات وبلورة السيناريوهات الممكنة. لكن، الذي أثار الانتباه هو أنه رغم كل مجهودات وزير الاقتصاد والمالية، واستماتته في الشرح و الترافع بكفاءة، بدت الحكومة مفتقدة لروح سياسية واضحة، وظهرت مرتبكة أمام أولويات متعددة، ومتوجسة من كثرة الجبهات وهي تئن من صعوبة التحرك في هامش ضيق و في مواجهة ضغط لوبيات قطاعية متنوعة.

أكيد، لا أحد كان ينتظر المعجزات، لكن يبدو أن الرصيد الضعيف للثقة بين الأحزاب السياسية المشكلة للحكومة، قد زاد من أثر ضغط العوامل الموضوعية السالفة الذكر، وقوى الانطباع أن الجهاز التنفيذي لا يستطيع استثمار كل الهوامش المتاحة لتعبئة الموارد و تحقيق توازن في منطق الدعم العمومي بين قطاعات عمومية وشركات خاصة تأثر رقم معاملاتها ويستحقون المساندة، وبين مواطنين تعلقت أرزاقهم و علقوا بين فكي أزمة غير مسبوقة ويستوجب إنقاذهم. كما تأكد أن حكومتنا لا زالت لا تعزف السمفونية بالتنسيق المطلوب و الجودة اللازمة، الشيء الذي غيب عن المشروع الحكومي تلك الروح الوطنية التي ابتهج لها المغاربة وهم يلمسون العناية الملكية السامية بكل المواطنين، وخاصة الفقراء والضعفاء والمستخدمين الذين توقفت أجورهم، من خلال إجراءات الدعم التي أمر بها قائد البلاد ورفض أي مقامرة بالأرواح على حساب الاقتصاد، خلال كل أسابيع الملحمة الكبرى للتصدي للوباء الفيروسي.

كتبت في مقال سابق، أن المطلوب من الحكومة وهي تصيغ مشروع القانون المالي التعديلي، كان هو أن تتم إعـادة تقييـم الإنفـاق العمـومي ليصبح بمردودية أعلى، وتوجيه الاعتمادات إلى القطاعـات ذات القيمة المضافـة المحدثة لمناصب شغل، ووقف أي تبذيـر للمال العام في الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية. فهل تحقق هذا الطموح ؟

كان المطلوب من الحكومة، تـرتيـب أولويات الاستثمار العمومي بحيث نعالج بأولوية قصوى العجز في المنظومة الصحية، ونغطي الفراغ الحاصل في التأطير وفي المعدات، ونبلور نظاما جديدا لتدبير المؤسسات الاستشفائية بشفافية، مع تحسين أوضاع الرأسمال البشري. وكان الواجب على الحكومة هو إقرار تحفيزات مالية للموارد البشرية، بقطاع الصحة العمومية وبكل القطاعات الأخرى التي كانت في الصف الأول في مواجهة الجائحة، خصوصا الأمنية منها، اعترافا لها بعملها وتضحياتها ؟ فهل رصدت ميزانية استثنائية لتحقيق ذلك؟

كان المأمول أن نعطي أولوية لتأهيل المدرسة العمومية وتحديث الممارسة التربوية، واتخاذ الترتيبات لاعتماد التعليم عن بعد كجزء من المنظومة في كل المستويات، مع الحرص على معالجة التفاوتات الاجتماعية كي لا نعمـق الفـوارق بين أطفال وشباب لهم لوحات إلكترونية وحواسيب وربط بشبكة الأنترنيت، وآخرون من أبناء الهوامش، لا يتوفرون على شيء من ذلك، وفي النهاية مطلوب من الجميع التنافس و إجراء نفس الامتحانات التقييمية. فهل جسد القانون المالي التعديلي رؤية لتحقيق ذلك؟

كان الطموح هو تكريس الرهان الاستراتيجي على المقاولة الوطنية، ودعم تحولها التكنولوجي و الرقمي لتستطيع مسايرة متطلبات السوق وتخدم الإنتاج الوطني و تقوي تنافسيتها، و تخلق فرصا استثمارية جديدة. فهل تحقق في هذا المشروع بما يجعل ذلك الأفق ممكنا؟

تطلعنا إلى معرفة الخطوات التي أعدتها الحكومة لحل معضلة القطاع غير المهيكل، و إدماج العاملين فيه في أنظمة التغطية الصحية و الاجتماعية، نظرا لراهنية هذا الورش وما له من ثقل اجتماعي يستدعي التحرك السريع بإرادة سياسية قوية حقيقية. فهل قرأتم في مشروع القانون المالي التعديلي ما يمكن أن نفهم منه أن هذا الأفق موضوع على طاولة الحكومة ؟

 كنا نترقب لنرى الجهاز التنفيذي يبدع لتعزيز التوجيه الاستراتيجي لجلالة الملك باعتماد سياسة عمومية من أجل خلق شروط الإدماج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والمعرفي للشباب، عبر سلسلة من الإجراءات و البرامج، من بينها المواكبة الناجعة و المتكاملة للمستفيدين من البرنامج المندمج لتمويل مقاولات الشباب، و رصد اعتمادات إضافية لذلك الغرض، وتسريع تنفيذ برنامج مدن المهن والكفاءات لتوفير منظومة تكوين مهني قادرة على مواكبة تحـول سـوق الشغـل، وتوفير طاقات شابة مؤهلة قابلة للتشغيل. فهل حملت ثنايا القانون المالي ما يحيل إلى ملامح استراتيجية حكومية لإدماج الشباب بهذا المنظور؟

كنا ننتظر أشياء ضرورية كثيرة تجعل هذا التمرين الديمقراطي الذي لم نعرف مثله منذ سنة 1983، مناسبة لتعزيز الاطمئنان و الثقة، ولكن لم يتحقق من ذلك الكثير. و لأني أغلب دائما منطق النقد الهادف، وأحرص على أن لا يموت الأمل عندما نحلل قضايا الشأن العام الوطني، أسعى إلى أن يبقى التفاؤل الموضوعي في الآفاق المرتبطة بتنمية بلادنا، إيمانا بأن إشاعة اليأس والتسفيه لا نفع فيها. لذلك، كتبت في عدة مناسبات أن الأزمة الحالية هي فرصة لتعزيز الثقة والتضامن والتآزر. وقلت أنه بالإمكان جعلها جسرا نعبره لتمكين بلادنا من جيل جديد من السيـاسات العمومية، ونعزز الإحساس بأننا في سفينة وطنية واحـدة و علينا أن ننجـو جميعـا، بغض النظر عن الموقع الذي نحتله في السفينة، طالما يتوفر لكل منا يقين بأن العيش المشترك في السفينة يتيح للجميع تطويـر الذات، وتعزيز المكتسبات، وأنه لا أحـد سيُنسى أو تضيع حقوقه و مصالحه، أو يُترك على الهامش.

لذلك أتسائل : ألم يكن متاحا أن نوفر اعتمادات إضافية بتملك شجاعة اتخاذ قرارات جبائية جريئة حان وقتها ليرد البعض لهذا الوطن بعضا من أفضاله عليهم ؟

ألم يكن ممكنا، مثلا، أن يحمل مشروع القانون المالي التعديلي مقترحات ضريبية ترفع بنقطتين أو ثلاثة الضريبة على أرباح المؤسسات البنكية، وشركات المحروقات، وشركات العقار، وشركات الاتصالات، لتمكين الدولة من موارد إضافية تحتاجها لترعى المواطنين في فترة أزمة؟ أليست تلك المداخيل الجبائية سوى نقطة في بحر الأرباح الطائلة التي تحققها سنويا تلك القطاعات؟

ألم يكن ممكنا، مثلا، أن تفرض ضريبة تضامنية على الأجور العليا؟ ألم يكن ممكنا، في قرار رمزي، أن ننهي حكاية تقاعد النواب والمستشارين البرلمانيين، خصوصا وأنه مطلب شعبي تكرر في عدة مناسبات؟

ولتعزيز الطلب الداخلي و رفع القدرة الشرائية، ودعم الفئات الهشة، ألم يكن ممكنا أن نقلص الضريبة على القيمة المضافة بنقطتين بالنسبة للمواد الغذائية الأساسية؟ ألم يكن ممكنا أن نقلص بنقطة أو نقطتين الضريبة على الدخل بالنسبة للموظفين و الأجراء الذين يقل دخلهم عن 7000 درهم، على الأقل حتى نهاية سنة 2021، كي ننعش قدراتهم الاستهلاكية وندعم صمودهم في مواجهة أعباء المرحلة الحالية؟ ألم يكن ممكنا أن نعفي المتقاعدين الذين يقل دخلهم عن 5000 درهم، من كامل الضريبة على الدخل؟

و في انتظار توحيد الدعم العمومي الممنوح للفئات الهشة، في إطار رؤية منسجمة و سياسة عمومية متكاملة ترتكز على الاستهداف الجيد عبر السجل الاجتماعي الموحد، ألم يكن ممكنا في بادرة بحمولة تضامنية كبيرة، أن نحدث، من الآن، دعما ماليا رمزيا في حدود 800 إلى 1000 درهم لكل مواطن أو مواطنة تجاوزت الستين سنة، و اجتمع فيهم شرطا الفقر و وضعية إعاقة حادة مثلا؟

ألم يكن ممكنا، في بادرة تشيع الأمل و التفاؤل، أن نحدث لمدة لا تتجاوز أربعة إلى ستة أشهر، دعما مؤقتا تبلغ قيمته 600 أو 700 درهم لكل شاب حاصل على شهادة التعليم العالي أو التكوين المهني، تتوفر فيه شروط العطالة عن العمل، و يكون مسجلا في مسار البحث عن شغل، ويستفيد من تكوين و مواكبة تقنية من طرف مؤسسة عمومية مختصة في هذا الباب؟ ألم يكن ذلك كافيا ليبتهج ذلك الشاب، و يستعيد ثقته في نفسه وهو يرى حكومة بلاده تعينه، و لو مؤقتا، على مصاريف الاشتراك في الأنترنيت والنقل العمومي مثلا؟

سأترك الإجابات عن هذه الأسئلة لقراء المقال، و أكتفي بتجديد أملي وتفاؤلي بأن العبقرية المغربية ستمكننا من تفادي إهدار مكتسبات ملحمة مقاومة جائحة كورونا، وستعيننا في فرص قريبة جدا على استدراك ما ضاع أثناء عرض مشروع القانون المالي التعديلي، حتى نمنح أنفسنا لحظة وطنية جديدة نستحقها، و تنخرط فيها كل القوى الحية للأمة المغربية بأفق استراتيجي، و في إطار عقد اجتماعي جديد يحرر الطاقات و يوفر شروط الإدماج و التنمية، و يعيد صياغة منظومة الحكامة لربط المسؤولية بالمحاسبة، و منع أي عبث في التعاطي مع المال العام أو الاستهتار بالمسؤوليات العمومية.

أملي أن يتم ذلك حتى تسهل كل التضحيات و نثمن فعليا رصيد المنجزات الهيكلية المتميزة التي حققتها بلادنا خلال العشرين سنة الماضية، و نضمن انطلاقة جيدة في مسار الإقلاع الشامل وفق نموذج تنموي جديد يعطي لتمغرابيت كامل حظوظ التميز الحضاري في عالم ما بعد كورونا.

زر الذهاب إلى الأعلى