غير مصنف

ما بعد الوهابية

منتصر حمادة
 
"أن تصل متأخراً إلى محطة القطار خير من عدم الوصول". يبدو أن هذا الأثر الفرنسي ينطبق على الوضعية الاستراتيجية لمجموعة من دول المنطقة العربية خلال السنين الأخيرة، ويهمنا في هذه التوقف عند الحالة السعودية.

فقد أطلقت الرياض مشروعاً إصلاحياً كبيراً بعنوان: "السعودية: رؤية 2030"، ولأننا نتحدث عن سياق استراتيجي، فواضح أن المشروع يتضمن عدة جبهات إصلاحية، تطال الحقل السياسي والأمني والديني والثقافي وغيره، إلا أننا سنتوقف بالتحديد عند الجبهة الدينية.
ومعلوم أن ما يُميز التديّن السعودي، أنه ينهل من مرجعية سلفية في نسختها الوهابية، وسبق أن تطرقنا إلى ماهية هذا التديّن، في تجلياته المحلية والإقليمية، في عَمَلين اثنين، هما "الوهابية في المغرب" [دار توبقال، 2014]، و"في نقد العقل السلفي" [المركز الثقافي العربي، 2014]

ومعلوم أيضاً أن صناع القرار في السعودية يعترفون اليوم، أو قل منذ سنتين تقريباً، بأن التديّن السلفي الوهابي [ما يُصطلح عليه إعلامياً بـ"الوهابية"]، أصبحت عائقاً أمام السعودية: مجتمعاً ودولةً ونظاماً، وهذا اعتراف كان يُصنف في خانة اللامفكر فيه إلى وقت قريب، أي إلى زمن ما قبل الإعلان عن مشروع "السعودية: رؤية 2030"، بما يُفيد أن ولوج الجبهة الدينية في المشروع، يتطلب بشكل أو بآخر، طرق "باب ما بعد السلفية الوهابية"، وواضح أن هذا حُلم مشروع، وطموح لا يسع الأقلام الإصلاحية في المنطقة إلا أن تؤيده، ولكن واضح أيضاً، أن تفعيل مقتضيات هذا المشروع لن يكون سهلاً، وحتى لو افترضنا جدلاً أنه تحقق منذ اليوم، فإن نتائجه لن تظهر بين ليلة وضحاها، لأسباب معقدة وشائكة، ولكن نتوقف عند أهمها في هذه المقالة الأولية.

نتوقف في هذه المقالة عند بعض عراقيل المشروع، ونوجزها في عائقين اثنين على الأقل، لأنه مؤكد وجود مجموعة منها، ولكن ارتأينا التوقف عند عائقين فقط:

ــ هناك أولاً العراقيل الدينية،وهذه عراقيل متوقعة، ما دمنا نتحدث عن ملف ديني يهم العقيدة والمذهب والسلوك، وبيان ذلك، أن التديّن السلفي الوهابي، حظي بترويج رسمي من الدولة السعودية منذ عقود مضت، في زمن ظاهرة "يُهدى ولا يُباع"، والإحالة على الأدبيات السلفية الوهابية التي كانت توزع مجاناً في ربوع العالم الإسلامي، ومنها المغرب بالطبع (وهذه أحد أسباب انتشار التديّن السلفي الوهابي في المغرب كما تطرقنا إلى ذلك في العَمَلين سالفي الذكر].

والحال أن هذا التديّن، متغلغل في المؤسسات الدينية الرسمية، ليس في السعودية وحسب، ولكن في أغلب دول الحليج العربي، إضافة إلى تغلغله في أدبيات أغلب الحركات الإسلامية التي تنهل من مرجعية سلفية ، أو تأثرت بها، على غرار نواة حركة "التوحيد والإصلاح" المغربية، دون الحديث عن انتشاره في العديد من المؤسسات الدينية الرسمية خارج المجال الخليجي العربي، بما في ذلك المغرب، حيث نُعاين حضور هذا التديّن في العديد من المؤسسات الدينية، ولكن ما يهمنا في هذا المقام، أن رغبة صناع القرار في السعودية، بولوج مرحلة "ما بعد السلفية الوهابية"، لن يكون مرُحبٌ بها بإطلاق في السعودية، لأنه من الصعب إقناع عقل سلفي وهابي، بجدوى هذا الخيار، بسبب تأثره بهذا التديّن، إن لم نزعم أنه يؤمن بأن هذا التديّن، يُجسد الإسلام، بمقتضى التماهي بين الدين (الإسلام) والتديّن (السلفية الوهابية)، بما يُفيد أننا سنعاين ما يُشبه مقاومات دينية من داخل المؤسسة الدينية، وهذا لوحده عطب ذاتي ينبغي الانتباه إليه منذ الآن قصد التفكير في سُبُل التفاعل الذكي والنافع معه، حتى لا تتكرر أخطاء تفاعل الدولة السعودية من التبعات الدينية لمرحلة ما بعد الغزو العراقي للكويت، بكل نتائجها الكارثية على المنطقة.

ــ هناك ثانياً العراقيل المجتمعية، وذات صلة بتأثر المجتمع السعودية، عقيدة ومذهباً وسلوكاً، بما كان يصدر عن المؤسسة الدينية الرسمية، بل ازداد الأمر استفحالاً، عندما تمت تغطية تقاليد مجتمعية متجاوزة برداء الفتاوى، من قبيل الرفض الديني الرسمي لقيادة المرأة للسيارة، إلى غاية صدور قرار رسمي عن صناع القرار يضع حداً لهذا المأزق الذي تسبب في مشاكل مجانية للدولة السعودية، كانت في غنى عنها.

الشاهد هنا، أن تطبع المجتمع السعودي، ومعه بعض المجتمعات العربية والإسلامية، بتبعات الفتاوى السلفية الوهابية، ترك أثاراً على الجهاز المفاهيمي لهذه المجتمعات ــ أو على "إبستيمي" هذه المجتمعات، إذا استعرنا مصطلحاً شهيراً لميشيل فوكو ــ وبالتالي، لا يمكن أن نتوقع التحرر من الآثار السلبية لهذا التطبع، عبر صدور قرارات رسمية، على جرأتها ونوعيتها، بما يُفسر على الأرجح، لجوء الدولة السعودية خلال السنين الأخيرة لما اصطلحنا عليه بـ"العلاج بالصدمة"، عبر اتخاذ قرارات ذات صلة بالفن والرياضة والترفيه والدين وقطاعات أخرى، ولكنها كانت إلى وقت قريب قرارات صادمة للمخيال المجتمعي السعودية، لولا أن إكراه اللحظة الإصلاحية السعودية الراهنة، اقتضى اللجوء إليها.

هذه نقاط أولية حول بعض العراقيل التي تواجه مشروع "السعودية: رؤية 2030" في جبهته الدينية، ولا نتحدث عن باقي الجبهات، على أن نتحدث في مقالة قادمة، عن بعض المفاتيح النظرية التي نعتقد أنها قد تساعد على التصدي لهذه العراقيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى