حكومة اجتماعية في آخر العمر
الدار / افتتاحية
من الواضح حسب المعطيات التي قدمها وزير الاقتصاد والمالية محمد بنشعبون أن الحكومة رضخت ولو بشكل نسبي ومحدود لبعض المطالب الاجتماعية التي فرضتها جائحة فيروس كورونا المستجد. سيتم تخصيص 5500 منصب جديد لقطاع الصحة، و17 ألف منصب لقطاع التعليم، بزيادة 1500 منصب في القطاع الأول، و2000 منصب في الثاني، مقارنة بما تم تخصيصه في السنة المالية الجارية. وتعتبر هذه الزيادة على الرغم من ضعفها تحولا استراتيجيا في نهج الحكومة الحالية التي بدأت مسيرتها بتوجه ليبرالي خالص يقوم بالأساس على تخلي الدولة تدريجيا من أعباء القطاعات الاجتماعية لتقليص النفقات العمومية استجابة لإملاءات المؤسسات المالية الدولية.
هذا التوجه الاجتماعي الذي ترتب عن الأزمة الصحية العالمية، يسبح تماما ضد تيار حكومة بنكيران وتوجهات السنوات الماضية من حكومة العثماني، اللتين سعيتا دائما إلى ترويج خطاب سياسي ينذر بنهاية دور الدولة الراعية والكفيلة، ويبشر بالدولة المراقبة والموجهة من بعيد، التي تكتفي بلعب دور الحكم بين مختلف بين الفاعلين الخواص، وتتوجه تدريجيا نحو التخلص من كل الالتزامات التقليدية والاحتفاظ فقط بما هو “استراتيجي”. ومثلما شكلت رياح الربيع العربي قبل حوالي عقد من الزمن لحظة تأمل ومراجعة لهذه التوجهات، يعود السياق التاريخي وتحولاته المفاجأة إلى تذكير الحكومات بأن الإنفاق على القطاعات الاجتماعية لا يدخل في نطاق الخسارات، وأن قطاعي التعليم والصحة ليسا عبئين وإنما هما استثماران مهمان للمستقبل.
ماذا يعني إذا هذا التحول ولوكان طفيفا وجزئيا؟ إنه أولا تذكير بأن صياغة البرنامج الحكومي الذي يجسده قانون المالية لا يزال عملا خارجا عن البرامج الانتخابية التي تنتخب الأحزاب على أساسها. نتذكر جميعا كيف رفع حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2012 شعارات الربيع العربي، مثل محاربة الفساد، وكيف تحولت تلك الشعارات إلى مجرد كلام ليل يمحوه النهار. فسرعان ما اعتادت الحكومة التعايش مع الفساد بكل أشكاله وتلويناته، وبدل أن تذهب بعيدا في تفعيل وعودها في هذا المجال بدأت تبحص عن مبررات سياسية لتأجيل هذا الملف، بل ووتعليقه على مشجب الهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة. وهذا المثال ليس مقتصرا على تجربة الإسلاميين وحدهم، فقبلهم واجهت حكومة التناوب التي قادها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الإكراه ذاته ودخلت دوامة التفاوض التي لا نهاية لها.
أما الاستنتاج الثاني الأهم من هذا التحول فهو أن ما كان بالأمس مستحيلا بسبب التوازنات الماكرواقتصادية وإكراهات الميزانية وضغط المديونية أصبح اليوم ممكنا وبسهولة. كيف استطاعت الحكومة أن تدبر الاعتمادات المالية الكافية لخلق مناصب مالية جديدة وهو التي كانت باستمرار تؤكد أن مواردها لا تسمح بذلك؟ كيف قررت أن تتحول إلى حكومة اجتماعية في آخر عمرها؟ لقد تبين أن مشكلة الموارد لا تعكس حقيقة الوضع، بقدر ما يتعلق الأمر بمشكلة إدارة وتدبير. فالحكومة تعرف جيدا المنافذ التي تهدر المال العام وتستنزف الميزانية، دون أن تتحقق من ورائها الغايات المرجوة. وهي الآن تخطط ولو بشكل محتشم لسد هذه المنافذ وتحويل مواردها نحو مجالات اجتماعية تتسم بالحاجة المستعجلة. ومن هنا جاء قرار إعادة هيكلة العديد من المؤسسات والمقاولات العمومية عبر إدماجها مع أخرى، كما وعدت بذلك الحكومة عقب الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب.
ينبغي إذا أن يتحول هذا النهج الإصلاحي إلى قاعدة ثابتة لتجاوز الحجم الهائل من الخصاص في مختلف القطاعات. وبما أننا نشرف على سنة انتخابية فإن برامج الأحزاب ومقترحاتها التي ستعرض في السوق الانتخابية يجب أن تستثمر بدورها هذه الإشارات الاجتماعية المهمة.