الرأيسلايدر

المقاطعة حق… ومع ذلك…!

بقلم : إكرام عبدي

من المجانب للصواب القول بأن الانسان منعزل عن السياسة، كلنا كائنات بفطرة سياسية، شئنا أو لم نشأ، أقرينا أو أنكرنا، علمنا أولم نعلم، انتظمنا أو تعاطفنا، فليست السياسة حكرا على نخبة أو أقلية، بل هي في كل بيت ومقهى وفضاء عام كضرورة بشرية، وكل سلوكيات الانسان العامة تجاه الآخر من علاقات ومعارف وأقارب ومجموعات ومنظمات، محكومة سليقيا بالسياسة، فمن الخطأ إذن فصل السلوك السياسي عن السلوك العام للإنسان، “الانسان حيوان سياسي” كما قال أرسطو، قد يظل متأرحجا بين الغريزة والكمال، لكنه سواء كان سياسيا بسيطا أو مسؤولا سياسيا، ملزم بالترشيد العقلاني وضبط السلوك والخضوع للرقابة والمتابعة والمحاسبة.

ولامناص أننا نساهم في صنع القرار السياسي، ونحن نقاطع منتوجات معينة احتجاجا على غلاء الأسعار، ونحن تتضامن مع جنود معبر الكركرات مثلا ونشعر بالألم والحزن، ونحن نرفض استمرار اعتقال الصحافيين مدافعين عن حرية التعبير، ونحن نقرأ كتابا سياسيا ممنوعا ونوزعه على أصدقائنا، ونحن نرفض إغراق مدينتنا بالأمطار لسوء المجاري محتجين على سوء التدبير لشؤون منطقتنا وقس على ذلك كثيرا …، ذلك أن فقداننا لقيمنا السياسية العليا ستحولنا إلى بيادق في رقعة الشطرنج بلا حرية ولا تفرد ولا خصوصية.

وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي تلك السلطة الخامسة الشديدة البأس المهابة الجانب، صار الانسان محكوما بسطوة التقنية، وأضحى بوسعنا تكوين اعتقاداتنا ووجهات نظرنا ومواقفنا تجاه الأحداث والسياسات التي تقع داخل الواقع المحيط بنا، والاحتجاج  بإعلان عدم الرضا والسخط إزاء أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية أو إزاء بعض السياسات والقرارات التي اتُخذت أو مُزمَع اتخاذها، ونناضل رقميا في منصات صارت تفرض نفسها كأحد أشكال التعبير العصرية للديمقراطية المباشرة، لنتحدث عن “دمقرطة السياسة” كتجسيد عملي لفكرة الديمقراطية المتمثلة في حكم الشعب نفسه بنفسه، سياسة الاجماع والأغلبية المتحررة من إملاءات ونواهي الخطابات الرسمية الحزبية التقليدية  المؤججة للحماسة والمفرطة في تمجيد الذات.

 وفي غياب الترشيد العقلاني قد تتغول هذه”السياسة الافتراضية” وتتوحش تحت مبرر حرية التعبير، لتصير سياسة تشويش وإلهاء للرأي العام من خلال اختلاق مخاطر لا وجود لها وتضخيم مشكلات صغيرة وتصدير مخاوف مفتعلة سياسات تتغيا طرد المواطن من الحيز العام للتقوقع على ذاته، فوضى تفترض التأطير القانوني بشكل جدي  وفرض قيود على حرية التعبير حتى لا تنتهك الحياة الخاصة للأفراد، أفكار نادى بها ملتون منذ 1644 وكذا جون لوك ورسو و مونتسكيو و ڤولتير، وستوارت ميل، ذلك أن حرية التعبير في العالم وفي أعرق الديمقراطيات قد تبدو شكليا مطلقة لكن عمليا وواقعيا مكبلة  بواقع القانون الدولي، وبفعل القانون الوطني الداخلي، و الواقع والفكر السياسيين،  فوضى سياسية تستلزم ضرورة  تشكيل الوعي العام عبر التثقيف السياسي لتغيير العقلية والمعتقدات غير الرسمية ضمن حلقات قراءة وحوار والتوجيه لغير المتعلمين أيضا، ولقد شهدت فترة كورونا انتشارًا غير مسبوق لتقنية البث المباشر (اللايف) على موقع «إنستجرام» و«فيسبوك» و«زوم» و«يوتيوب» وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي يتم فيها تناول الكثير من مواضيع الشأن العام عبر ندوات وحوارات فكرية وسياسية؛ يشارك فيها نخب وفاعلون من مثقفين وباحثين وأساتذة جامعيين وكذا رواد أعمال، لطالما كانت لديهم عقدة مع وسائل الإعلام الجديدة، مبادرات آمل ألا تظل رهينة كورونا أو سابقة لكل انتخابات تشريعية.

شئنا أم أبينا، فنحن منخرطون في الفعل السياسي حتى النخاع، والدعوة لمقاطعة الانتخابات التشريعية المقبلة لن تؤدي إلا إلى تزكية الوضع القائم، العزوف حق مشروع طبعا، لكن عقلية المقاطعة لن تجد في المقابل عقلية واعية بديلة قوية مُصغية مُدركة لرسائل المقاطعة الجاهزة للإصغاء والحوار والتغيير، ويكفي العودة إلى السنوات السابقة لتتضح الصورة نسبيا ونتساءل: كم من حزب أو شخصية سياسية قام جديا بمراجعات عميقة لمنهجه وبرامجه أو حتى بتقييم لنتائجه الانتخابية بكل موضوعية؟ وكم من فائز في الانتخابات وضع في اعتباره المقاطعين ومواقفهم في خطاباته بعد الانتخابات؟ ألم يستفد حزب الاستقلال بقيادة مترّهلة من خيار المقاطعة وتمكن من الفوز بالانتخابات عام 2007 ليرهن المغرب في مشاكل اقتصادية واجتماعية عمي؟.ألم تساهم أصوات المقاطعين من أحزاب فيدرالية يسارية من فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2011، مستغلة “الربيع العربي” لحصد أغلبية الأصوات ؟

ثمة غيوم أزمة ثقة تلف سماء الاستحقاق الانتخابي المُفترض تنظيمه في المغرب بداية 2021، لكن خيار المقاطعة لن يكون السبيل الأنجع في نظري، فلابد من التعبئة لتجديد النخب الحكومية والبرلمانية، وضخ نفس جديد في أوصال المشهد السياسي المغربي، وتجاوز تداعيات أزمة كورونا على شرائح المجتمع  وعلى معيشه واقتصاده، وفي ظل غياب أحزاب ديمقراطية قوية، فأية انعزالية ستفتح الباب لأحزاب ذات تنظيم وتمويل قويين، للاستفادة من الوضع القائم بخطاباتها “المظلومية” المعهودة وبشعبيتها في الشارع المغربي،  بعدما أجهزت على أهم المكتسبات الاجتماعية للمواطن المغربي.

 قد يكون من السذاجة التحمس للانتخابات المقبلة، قد يستشعر المواطن المغربي حالة لاجدوى الفعل السياسي، وقد ينشغل بقوته اليومي عن كل هم سياسي،  وقد يستشعر الأسى وهو يمضي إلى مشهد سياسي تقليدي  تتسابق  فيه الأحزاب لاقتسام الدعم المالي السنوي رغم تداعيات أزمة كورونا،  لكن  المشهد السياسي المغربي لن يتغير إلا من خلال المشاركة ولن تجدي حملات المقاطعه في كبح جماح الانتخابات التي باتت على الأبواب، والعزوف عن المشاركة قد يجهز على ما تبقى من مكتسبات حققها مغربنا على مدى سنوات مضت، ليخدم جهات أرادت هندسة المشهد الانتخابي على طريقتها الخاصة،

وحتما ستأتي الرياح بما لا تشتهي بعيرها!

زر الذهاب إلى الأعلى