بخبرته العميقة في علم النفس، تحدث الدكتور الأمريكي آري كروغلانسكي (Arie W. Kruglanski)، الباحث بقسم علم النفس في جامعة ماريلاند، المتخصص في الآليات المعرفية (cognitive mechanisms)، والمؤلف لكتابين مهمين حول الراديكالية ولأكثر من 300 مقال في علم النفس، إلى مجلة (BAB) التابعة لوكالة المغرب العربي للأنباء عن أسباب التطرف وسيكولوجيا المتطرفين المرتبطة بـ”عدم التوازن التحفيزي”.
في بداية الأمر، أود سؤالكم عن البحث الذي قمتم به منذ سنتين حول “الآليات المعرفية في إطار التطرف العنيف”، فما طبيعة العلاقة التي تجمع بينهما؟
تعد الآليات المعرفية العامل الرئيسي الذي يكمن وراء الراديكالية والتطرف العنيف، حيث تساعد في تكوين الأفكار المتطرفة من خلال عملية الاستدلال، أي استخراج الأجوبة التي يقنع بها الشخص نفسه بناء على معلومات معروفة مسبقا قد تكون صحيحة أو خاطئة.
ويتطرق البحث، الذي قمت به بمشاركة متخصصين آخرين مهتمين بقضية التطرف من قبيل، جيسيكا فيرنانديز، آدم فاكتور وإيوا زوموفسكا، إلى الأسس المعرفية للتطرف العنيف. نحن نتصور أن التطرف هو حالة نابعة من “عدم التوازن التحفيزي” (motivational imbalance) التي تستولي على كل الاحتياجات النفسية الأخرى محررة بذلك الفرد من قواعد السلوك المتعارف عليها في المجتمع. وفي حالة التطرف العنيف، يجب طرح السؤال حول أهمية الشخصية والسلوك المتحرر الذي يستخدم العنف كوسيلة لبلوغ الهدف. ومن بين الآليات المعرفية المعتمدة هي التعلم من المتطرفين والاستدلال من معلومات معروفة مسبقا، وتفعيل المعرفة عبر الاتصال الشخصي الوثيق ونسج علاقات تواصلية داخل المجموعة المتطرفة. كما يعد الانتباه الانتقائي، أي التركيز على فكرة رئيسية في بيئة التطرف مع تجاهل المنبهات الأخرى غير ذات الصلة وتثبيط الأفكار غير المرغوب فيها، من بين الآليات المعرفية الأخرى التي تساهم في زرع التطرف.
ولكن ما هي المميزات التي تجعل السلوك “متطرفا”؟ وما هي الآليات النفسية التي تساعد في الانتقال من الاعتدال إلى التطرف والعكس؟ هذه الأسئلة المطروحة في البحث تجعلنا نقدم تصور ا أكثر عمومية للتطرف باعتباره بناء نفسيا.
نفترض أنه بإمكان السلوك المتشدد أن يتنوع ويشمل ليس فقط أفكار متطرفة عنيفة بل وسلوكيات مختلفة على نطاق واسع. فعلى سبيل المثال، يمكن وصف العنف والفوضى على أنهما سلوكان “متطرفان” (extreme behavior)، ولكن يمكن إعطاء نفس الوصف عند اتباع بعض الأنظمة الغذائية الخاصة وبعض أنواع الرياضات والانجذاب للمغريات والشهوات “القاتلة” والرغبة الشديدة في الطعام… هل اعتبار هذه السلوكيات “متطرفة” هي مجرد طريقة للكلام؟ أم تشترك هذه السلوكيات في جوهر نفسي واحد؟ الإجابة هي نعم. فهذه السلوكيات تشترك في حالة خاصة من “عدم التوازن التحفيزي”، حيث تهيمن حاجة معينة على عقل الشخص تحفزه “بشدة” لتلبيتها، وذلك على حساب اهتماماته الأخرى.
لطالما كان التطرف العنيف مصدر قلق كبير لصانعي القرار في البلدان المتقدمة لعقود من الزمن. ما هي طبيعة وأسباب هذه الظاهرة المتفشية بين المجموعات المتطرفة في هذه المجتمعات؟
يتعلق السؤال الرئيسي هنا بدراسة “اختلال التوازن التحفيزي” الذي يميز المتطرفين داخل المنظمات، وخاصة طبيعة الحاجة المهيمنة التي تزرع الأهداف المبتغاة من إنشاء المجموعة.
وقد يمثل سعي أفراد المجتمع إلى تحقيق الذات في بادئ الأمر حاجة أساسية وأمر ا ضروريا؛ إذ يبحث هؤلاء الأشخاص عن تحقيق مكانة رفيعة في مجالات ذات قيمة عالية في ثقافة المجتمع. ويدخل ضمنها أيضا الانتقام الذي يمثل محاولة لاستعادة إحساس المرء لمكانة ذاته بعد أن تكون تعرضت في وقت ما للإهانة داخل المجتمع.
وعندما يتعلق الأمر بأهداف متعلقة بالإرهاب والتطرف العنيف، يصبح تحقيق الذات متصلا بطرق ملتوية كالتفاني والمثابرة من أجل قائد المجموعة المتطرفة، وذلك عبر القيام بالأنشطة التي يوافق عليها ذلك القائد لتمنح كل من قام بها أهمية داخل المجموعة.
ويصبح السؤال العملي هو كيف ترتبط معرفيا هذه الأهداف، التي تنطوي على العنف، بمفهوم تحقيق الذات والحصول على المكانة الاجتماعية؟
إن إثارة حاجة المرء لتحقيق ذاته لا يعني بالضرورة اللجوء إلى العنف، إذ يعتبر تحقيق الذات بعد كل شيء حاجة إنسانية عالمية يلبيها معظم الناس بطريقة سلمية.
وفي حالة الصراعات الجماعية العنيفة، تتصاعد موجات العنف ضد الأعداء باعتبار هذا العنف طريق ا فعال ا للحصول على المكانة الاجتماعية ويولد من هذه البيئة المضطربة البطل الذي يكبر في عيون الناس ونفوسهم. وعلى الرغم من أن العنف لا يحقق بالضرورة تلك المكانة، فهو غالب ا ما يجسد رمز ا للهيمنة الجسدية، من خلال تفشيه في الصراعات الجماعية عبر تاريخ البشرية.
وتعزز غالبا المجموعات المتطرفة التي تشهد هذه الصراعات، العلاقة بين التأهب لاستعمال العنف ضد أعدائها وتحقيق المكانة الاجتماعية التي ست منح لأعضائها في المقابل. وبالتالي، يتم نسج علاقة الغاية (المكانة الاجتماعية) بالوسيلة (العنف)، كما هو مذكور في العديد من السير الشعبية، وخاصة تلك المتعلقة بالمنظمات المتشددة التي تريد تحقيق المكانة الاجتماعية كغاية لتبرير وسيلة العنف.
وتدعم الأبحاث التجريبية المكثفة التي تم إجراؤها خلال السنوات الأخيرة، العلاقة الخاصة بين البحث عن المكانة ودعم العنف لتحقيق بعض الغايات المعترف بها مجتمعيا. فعلى سبيل المثال، تشير بعض المصادر المتاحة (open source) حول المهاجمين الانتحاريين الذين نجحوا عبر التاريخ في ارتكاب الهجمات الأكثر خطورة وعدوانية، إلى أن توظيف دوافعهم القوية بعد فقدان المكانة والأهمية (significance) كان السبب في تحقيق “مكاسب كبيرة” (من حيث عدد القتلى والجرحى في الهجمات) مقارنة مع الأفراد الذين كان لديهم سعي أقل حدة لتلك المكانة. وقد أسفر فحص الجرائم ذات الدوافع الأيديولوجية التي ن ف ذت في الولايات المتحدة، عن أن الجرائم العنيفة، خاصة بعد مقارنتها بالجرائم غير العنيفة، يرتكبها أفراد عانوا من خسارتهم لمكانتهم الاجتماعية.
تضفي هذه المنظمات المتطرفة الشرعية على أفعالها العنيفة بالدفاع عن السيادة الوطنية والهوية “النقية” للبلاد، فمن أين تأتي هذه الأفكار المتطرفة وخاصة هذه “الكراهية القديمة للشخص الأجنبي”؟
أي ا كان ما قد يفكر فيه المرء بشأن هذه السلوكيات المتطرفة، فإنها عادة ما تثير استجابة شديدة من أغلبية الملاحظين. فهذه الأفكار سواء رآها البعض غريبة، خيالية، مثيرة للإعجاب أو حقيرة، يستحيل اعتبارها عادية ومملة، كما من غير المرجح أن تترك أي ملاحظ أو متتبع بدون تهييج مشاعره. ولكن للوهلة الثانية، يتبين أن هذه السلوكيات المتطرفة ليست خاصة أو فريدة من نوعها. وبدلا من ذلك، يبدو أنه يمكن تحديد سلسلة متصلة تبدأ من السعي المتوازن (إلى حد ما) لتلبية الاحتياجات الأساسية للفرد إلى عدم التوازن العميق الذي تكون فيه حاجة التطرف ذات أولوية، حيث تتفوق إلى حد كبير على باقي الاحتياجات الأخرى. فالكراهية العميقة للأجانب والدفاع عن غايات متطرفة تدخل في سياق عدم التوازن العميق.
وبناء على ذلك، فإن التطرف (كيفما كانت تجلياته) محفوف بصعوبات نفسية. وكلما زاد السلوك تطرف ا وتزايد اضطراب التوازن النفسي، كلما قل عدد الأشخاص، لا سيما الذين يتمتعون بقدرة تنظيمية ذاتية (self-regulatory capacity)، وذلك بسبب عجزهم على إظهار السلوكيات المتطرفة، وخاصة بعد مرور فترة طويلة. على سبيل المثال، متوسط طول الوقت الذي يقضيه أفراد المجتمع كأعضاء في منظمات اليمين المتطرف العنيفة في أوروبا (مثل النازيين الجدد) هو حوالي عشر سنوات. وحسب الباحثين الأمريكيين دافيد بيروز وسكوت ديكر اللذين أجريا مقابلات مع أعضاء سابقين في عصابات الأحداث بالولايات المتحدة سنة 2011، يرتبط انسحابهم من العصابات ارتباط ا وثيق ا بأعمارهم مما يشير إلى وجود مرحلة شيخوخة طبيعية تكمن في مسار أعضاء العصابات. ويشير منحنى الباحثين الأمريكيين مايكل جوتفريدسون وترافيس هيرشي من خلال كتابهما “النظرية العامة للجريمة” الذي نشر سنة 1984، إلى أن النشاط الإجرامي لدى أعضاء العصابات والمتطرفين يبلغ ذروته أواخر سن المراهقة وينخفض أوائل العشرينات.
وفي هذا الصدد، يرى الباحثان الأمريكيان جون لوب وروبرت سمبسون في دراسة لـ”فهم الانسحاب من الجريمة” أن الغالبية العظمى من المجرمين الجنائيين يتوقفون عن ارتكاب أنشطة إجرامية بعد التقدم في العمر، وذلك بفعل عوامل أخرى كالزواج وضرورة تأمين عمل قانوني ومستقر، وإعادة تقييم تكاليف ومنافع ارتكاب الجريمة، بعد أن أدرك المجرم الجنائي الآثار السلبية للجريمة، خاصة في ارتباطها لديه بالإدمان على المخدرات والكحول واضطرابات الأكل.
وعلى الرغم من أن المعاناة لديهم تكون ممتدة زمنيا، فإن الأفراد عادة ما ينخرطون في معارك طويلة مع هذه الآلام بهدف “استعادة التوازن التحفيزي” الذي يوفر إشباع ا متناغم ا مع احتياجاتهم الأساسية.
أكدت دراسة أجريت شهر فبراير 2020 في كيبيك من قبل جامعة مونريال أن التطرف الراديكالي لا يؤدي بالضرورة إلى التطرف العنيف، هل هذه الملاحظة صحيحة في معظم المنظمات المتطرفة؟
نعم، يمكن القول إن التطرف الراديكالي لا يعني بالضرورة استعمال العنف، كما يمكن أن يكون مجرد نشاط سياسي أو استخدام شكل من أشكال أخرى من السلوك العام يستلزم التضحية من دون استعمال العنف.
ويبحث الراديكاليون في معظم الأوقات عن مظاهر الظلم والتعسف في المجتمع ويحاولون القضاء عليها، كما يدققون في مصادر الأخطاء السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات لإزالتها. وفي هذا السياق، قد يسعى المتطرفون الراديكاليون إلى تلبية حاجتهم القصوى للوصول إلى المكانة والأهمية (quest for significance) بطريقة لا عنفية، حتى في ظل عدم التوازن التحفيزي.
وفي المقابل، وعندما يتعطل تحقيق مبادئ الراديكالية في المجتمع بسبب عدم قبول فئة مجتمعية عريضة لها، يصبح العنف الوسيلة المثلى لتسريع وتيرة نشر الأفكار الراديكالية بتعرض عدد كبير من الأفراد لعمليات إقناع ممنهجة من طرف المتطرفين الراديكاليين.
استنادا إلى كتابك “رحلة الراديكاليين”، هل يمكننا العمل على نزع التطرف الراديكالي من الأفراد؟ أو نزع التطرف العنيف لدى الشباب من خلال استراتيجية حوارية فعالة؟
نعم، يمكن نزع التطرف من الأفراد المتطرفين. فأنا أناقش في كتابي أمثلة على نزع التطرف العفوي وكذلك التطرف الممنهج علما أن نفسية الإنسان ودماغه يسمحان له بمرونة أفكاره. وبنفس الطريقة التي يمكن بها للبشر أن يصبحوا متطرفين، يمكنهم التخلص من التطرف وأيض ا الرجوع إليه مرة أخرى. ويجب، في هذا الصدد، أن تهدف عملية نزع التطرف لدى الشباب إلى ركائزه الثلاثة “الاحتياجات والحوافز والشبكات” التي عالجتها في كتاب نشر عام 2019. وتعتبر هذه الركائز عوامل رئيسية لإرساء استراتيجية حوارية تقوم على نبذ التطرف عبر معالجة حاجة الشباب لتحقيق المكانة الاجتماعية وإشراكهم في ثقافة أو شبكة تدعم المسار اللاعنفي لتحقيق الذات والكرامة.
المصدر: الدار– وم ع