وقفات أوليفيه روا مع “الجهل المقدس” (2/2)
بقلم: منتصر حمادة
يخلص أوليفيه روا في كتابه “الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة” إلى أن التحولات الدينية كانت موجودة على الدوام، لكن التحولات الكثيفة كانت جماعية بوجه عام وحصلت في سياقات سياسية معينة (فتوحات، إستراتيجية إدماج، تعبير عن هويات محلية)، والجديد اليوم غَلَبة التحولات الحاصلة بناء على اختيار فردي وفي سياقات بالغة التنوع، كما أنها تتصف بالكثافة وتتساوق مع الاندفاع السريع للتيارات الدينية الجديدة، التي تنتشر إما داخل الأديان القائمة ـ كما هو السائد مع حركات كاريزماتية وإنجيلية في المسيحية على حساب الأشكال الأكثر ليبرالية أو التقليدية، وانتشار السلفية في الإسلام ـ وإما على شكل أديان جديدة، غالباً ما تنعت بأنها “بِدع”، لولا أن الظاهرة الرئيسية في هذه التحولات هي الانفصال بين الديني والثقافة، أي إن الأديان تجتذب الأتباع من خارج الثقافات المقترنة بها تقليديا، أو ذات تأثير على صعيد فقدان الهوية الثقافية غير متبوع يتثاقف: إنها بنفسها عن كل من الثقافات المكتنفة، المعتبرة دنيوية جداً، لا بل وثنية حتى، من غير أن تغدو مع ذلك هي المروجة للثقافات الجديدة.
لم يعد ثمة اتصال تلقائي بين ثقافة ودين، وغَدَت المعالم الدينية طليقة وعائمة، بل سوف تزداد التوترات حدة مع انتشار حالات التحول وتغيير الدين في العالم اليوم، إلى أن تحل اللحظة التي يصبح فيها الفصل بين الأديان والثقافات مستقرا في الأذهان: إن التحولات هي مفتاح لفهم ما يحدث، غير أن تعميمها المحتم سيكون أيضاً الدليل على أن الأديان ستحيى من الآن فصاعداً على هواها في ما يتعدى الثقافات، وأن صدام/ حوار الحضارات ذائع الصيت، الذي يفترض وجود علاقة دائمة ومتبادلة بين الثقافة والديني، يبقى استنتاجاً عقيما، والخطاب موجه هنا بالطبع إلى مروجي أطروحة الصدام، ومعهم مُرَوجو خطاب الحوار بين الأديان والحضارات، لنقل أنه خطاب نقدي يروم التنبيه إلى ضرورة تفكيك ثنائية الديني والثقافي قبل الحديث عن صدام الحضارات أو حوار الأديان، وما جاور هذه الشعارات والمشاريع.
بخصوص تعقد الخريطة الدينية في عالم العولمة ـ منذ الأزل في الواقع ـ يَخلصُ المؤلف إلى أن اللامساواة بين الأديان حيال العولمة تُفسر برحابة الخيارات المتخذة في عمله هذا، على اعتبار أن الأمر لا يتعلق بمبحث عام في العلاقات بين الدين والثقافة، ولعل هذا يفترض إحاطة شاملة مستحيلة وتَبحرا يُقر بعدم امتلاكه رغم رصانة مبحثه، وإنما المراد هنا، انطلاقاً من عدد معين من الحالات، النظر في العلاقات بين الدين والثقافة كيف تتركب مجددا اليوم، وما الذي يعنيه ذلك فيما خص فهمنا للظاهرة الدينية. ولا ريب في أن ذلك يناسب في المقام الأول “الأديان الكبرى” ـ أي الديانات التوحيدية الثلاث ـ تلك التي عرفت عبر التاريخ سيرورات توسع عن طريق الفتوحات أو الاعتناق، وظواهر انتقال في ثقافات مختلفة، وإزالة للصفة الإقليمية والتفرغ إلى ثقافة دنيوية (مسيحية، إسلام، بوذية، هندوسية، يهودية)، ويمكن إضافة حالات تاريخية، أقلها إن لم نقل أبرزها اليوم، ظهور حالات طريفة وصادمة في الواقع لمعبودات ومعتقدات جديدة، من المطربة الأمريكية مادونا إلى بطل الروايات البريطاني هاري بوتر مرورا بعيد جميع القديسيين وشيفرة دافتشي للروائي دان بوران، لا من حيث كونها أديانا جديدة، ولكنها تجعل من المعتقدات الوثنية الجديدة خلفية الثقافة المعاصرة، مُقللة بذلك شأن الأديان الكبرى التي تغذو مسوخا بسيطة للمعتقدات الجديدة، ولقد فوجئت الكنيسة الكاثوليكية بالنجاح الذي حققته “شفيرة دافتشي” لا لأن الرواية تُدمر من الداخل اللاهوت المسيحي فحسب، بل لأنها تجعل من الكنيسة الكاثولكية بدعة، ومكيدة.
نأتي لخلاصات هذا العمل القيم، والذي نحسبه أحد المراجع العلمية في موضوع التحولات الدينية، ونكتفي ببعض الإشارات الدالة من باب حسن خاتمة العمل؛ نقرأ لأوليفيه روى الإشارات التالية، تيمنا بإشارات ابن سينا، في مجالنا التداولي الإسلامي، فيما مضى من زمن الرقي والتحضر والعلم والإبداع الذي ينفع الناس:
1 ـ يستعيد الديني خلسة الخطاب متعدد الثقافة مُتموضعاً كأقلية ثقافية عن طريق المعيار الديني المفصول عن كل سياق: يمتزج الديني والثقافي مجدداً ولكن الديني هو الذي يُقدم المعيار الثقافي؛
2 ـ استحواذ مجموعة محلية على الدين مجددا قد يأخذ شكل الأرثوذكسية المتطرفة من قبيل الأصولية، أي إنكار الاختلاف الثقافي نفسه؛
3 ـ أسست العولمة سوقا عالميا للديني، فيدور الكلام إذا على “مستهلكين” أي أناس لديهم طلب تتعين تلبيته بصدد الحاجات الروحية ويجدون أمامهم تشكيلة من المنتجات متنوعة وسهلة المنال، حيثما وجدت في العالم، أو يكاد: السوق لم يعد مُقيداً؛
4 ـ كان من أثر الانفصال بين المعالم الدينية والمعالم الثقافية أن أتاح بوجه خاص إمكان استهلاك منتج ديني من دون حاجة إلى معرفة الثقافة التي أنتجته؛
5 ـ نشأ في العالم الإسلامي تاريخيا فضاء ثقافي مستقل ذاتيا، لكنه كان بانتظام عرضة لسهام أصولية متلفة للآثار الفنية، ومعادية للثقافة، من الموحدين إلى طالبان مروراً بالوهابيين [السلفية الوهابية]، أو حركات توفيقية ترتاب، بحق وفقا لوجهة نظرها، في فكرة الثقافة نفسها؛
6 ـ فقدان الهوية الثقافية هو فقدان البداهة الاجتماعية للدين، ومن الآن فصاعداً يعيش المؤمنون فيما بينهم كأقليات محاطين بثقافة دنيوية، ملحدة، إباحية، مادية،، اختارت آلهة مُزيفة: المال، الجنس، أو الإنسان نفسه.
7 ـ التنازل عن قيم الثقافة يعني التنازل عن الإيمان والهوية الدينية، وبالعكس، ولكن الثقافة الدنيوية في العالم العربي هي في الوقت عينه فارغة وتزداد فراغا، وتختفي تحت الضغط المزدوج للسلفية من جهة، وللتغريب من جهة ثانية.
ليس صدفة أن الكتاب الصادر بالفرنسية، صدرت منه حتى الآن ثلاث طبعات بالعربية، عن دار الساقي، لأهمية مضامينه.