عبد الإله لغزاوي والحفر في مميزات التدين المغربي الأصيل
بقلم ✍️ منتصر حمادة
بين أيدينا كتاب مرجعي في تناول الظاهرة الصوفية، ويوجز بامتياز لماذا يوصف المغرب بأنه “بلد الأولياء” مقارنة مع أغلب دول المنطقة، وألفه باحث متخصص في الثقافة الشعبية، ولو أنه يتطرق لمعالم الظاهرة في مدينة مكناس ـ “العاصمة الإسماعيلية”، نسبة إلى المولى إسماعيل، أحد ملوك الدولة العلوية، بحكم أنه اتخذها عاصمة للدولة في حقبة توليه الحكم ـ إلا أن تأمل مضامين الكتاب وإسقاطها على مُجمل التراب المغربي، نحسبُ أنه يُوجز أشياء كثيرة على طبيعة التديّن السائد طيلة قرون في المجال الثقافي المغربي.
نحن في ضيافة كتاب ألفه الباحث عبد الإله لغزاوي، وجاء تحت عنوان: “مونوغرافية المقدس بمدينة مكناس: مقاربة لظاهرة الأولياء في تجلياتها الثقافية والأدبية ودراسة آليات اشتغال الكتابة”، (الجزء 1 و2)، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، مع التذكير أن مؤلف الكتاب، الباحث عبد الإله لغزاوي، صدرت له العديد من الدراسات تتناول على الخصوص الثقافة الشعبية والتصوف والزوايا والبيئة والملحون والعمران.
يشتغل العمل على “الوظائف الحيوية لأولياء مكناس، ورصد مدى تأثيرهم العميق في الحياة الاجتماعية والفنية والأدبية والثقافية، وإسهامهم الخلاق في مجال الكتابة، للتأكيد على أن ظاهرة الولاية صنعت تاريخنا، وموشومة في ذاكرتنا، ومستمرة في حياتنا، ولها حضور مشع في راهننا، رغم ما يحيط بنا من تيارات مادية مناوئة للظواهر الروحية، ومن ثمة فإن المقدس الذي يحيل على جزء من كينونتنا، وعربون حضارتنا ووجودنا”، (ص 9) ويضيف في تمهيد أطروحته الجامعية حول عمل أهل المقدس من خلال تناول ظاهرة الأولياء، أن المدينة المعنية، “عرفت جملة وافرة من الأولياء الصالحين الذين شكلوا جزءاً هاماً من مظاهرها القدسية وحملوا المشعل الإصلاحي والثقافي، وملأوا الفراغ الروحي والعلمي”، (ص 10) مؤكداً أنه يروم من خلال إصدار هذه الموسوعة المساهمة في “رد الاعتبار لتراثنا الديني، ورصيدنا القدسي الذي كان على الدوام فاعلاً في حضارتنا، وموجهاً لثقافتنا، وضابطاً لسيرورة عاداتنا وتقاليدنا، وتغيير النظرة التبسيطية والتقزيمية التي يختزل إليها الأولياء من طرف البعض”، وأيضاً من باب إثارة “النظر إلى ما تتوفر عليه الفنون القدسية (أضرحة/ قباب/ تأثيث/ زخارف..) من أبعاد جمالية، ودلالات رمزية، مع الكشف عن مدى تجاوب الأجناس الأدبية مع أولياء مكناس من خلال توظيفهم في الرواية والمسرح والسينما والشعر والنثر، للتأكيد على حيوية المقدس وفاعليته، واستمراره في الزمان والمكان” (ص 12)، وبَدَهي أن مثل هذه الدراسات، لا نجد لها أي أثر في المنابر الإعلامية التي تنهل من مرجعية إسلاموية.
وواضح أن الكتاب يكتسي قيمة إبستيمولوجية وثقافية وأدبية وفنية جديرة بالبحث والتحليل، بحكم أن ظاهرة الأولياء بالعاصمة الإسماعيلية تتميز بحيويتها وثرائها، وتنفتح على واجهات متعددة، تحتاج إلى قراءة احترافية تستجلي غموضها وفق منظور محكم، وتصور عميق، نحسبُ أن المؤلف توفق بشكل كبير في تفعيله على أرض الواقع من خلال هذه الموسوعة القيمة.
الكتاب حافل بالأبواب والفصول التي ترتحل على نحو مونوغرافي لدراسة ظاهرة المقدس مكناس انطلاقاً من تحليل دقيق للحضور المشهود لأولياء هذه المدينة العريق، كالشيخ الكامل الهادي بنعيسى مؤسس الزاوية العيساوية، وسيدي عبد الرحمن المجذوب، وسيدي عبد القادر العلمي.. ناهيك عن أولياء اشتهروا بصلاحهم كسيدي بوزكري، وسيدي أحمد ابن خضراء، وسيدي عمرو الحصيني، ولالة ستي هنو، ولالة عائشة عدوية، وأولياء آخرين ضروبا بسهم وافر في المجال العلمي كشاعر الملحون الفقيه العميري، والفقيه محمد المجاصي، والعلامة محمد البيجري، والعارف بالله محمد بن الحبيب الأمغاري.
اجتهد مؤلف هذا العمل في إبراز الأهمية التي تكتسيها العاصمة الإسماعيلية في المجال الصوفي سلوكاً وتربيةً وإبداعاً، وإنتاج معرفة خصبة تستجلي هوية الأولياء الذاتية وكراماتهم الصوفية، ووظائفهم المختلفة، مع صياغة خطاب تحليلي يستنكه المقدس الولوي في تجلياته الطقوسية والعمرانية والإبداعية، فينكب على مقارنة الزيارة والمعتقدات والقباب والزخرفة والإنارة والأثاث والتحف والخط والموسيقى والإنشاد والرقص والتصوري والتشكيل والسينما والتمثيل والفرجة والشعر والرواية والمسرح.
يسافر المؤلف بالقارئ في عوالم تجليات المقدس الأنثوي، لأدوار ووظائف التصوف في المجال الثقافي المغربي، من خلال الاشتغال على الوظيفة الدينية والصوفية، الوظيفة الاجتماعية، الوظيفة السياسية والدفاعية، الوظيفة العلمية والثقافية، الزيارة والقصد والطقوس والهبة، المعتقد والتجاذب والاحتفال والموسم، البناء والتجهيز والتأثيث والوقف، الإشراف والتدبير والتوقير والإنعام، كما نقرأ مثلا في عناوين الفصل الثاني (الدور الوظيفة) من الباب الأول (الهوية والوظيفة والتواصل)؛
ونقرأ أيضاً في عناوين الفصل الثاني (التوجيه الفني)، العناوين التالية: العمارة والزخرفة، الأثاث والتحف، الموسيقى والرقص، التصوير والتمثيل؛ أما في الفصل المخصص للتأثير الأدبي، فنقرأ دراسات حول القول الشعري والخطاب المقالي، القالب النثري، وأخيراً، الإبداع السردي والمسرحي، لتنتهي مواد الجزء الأول من هذه الموسوعة النوعية. (جاء الجزء الأول في 686 صفحة).
انصرف الجزء الثاني إلى إنتاج مقاربة شمولية للأعمال الأدبية والثقافية التي أبدعها أقطاب الولاية والصلاح بمكناس، بغية الوقوف عند تحليل كمائن الخطاب وإجلاء مكونات الكتابة وآليات اشتغالها، وتحديد أبعادها الدلالية، ومضامينها، وأساليبها التعبيرية، ودرجة تأثيرها في المتلقي، حسب طاقاتها الإبداعية، وجمالية لغتها الفنية، وهكذا نقرأ مثلاً في الفصل الثاني من هذا الجزء العناوين التالية: الخطاب الثقافي والمعرفي، نطلع على المباحث التالية: العلوم الدينية، العلوم التاريخية، العلوم الصوفية.
يسافر المؤلف بالقارئ في عوالم تجليات المقدس الأنثوي، لأدوار ووظائف التصوف في المجال الثقافي المغربي، من خلال الاشتغال على الوظيفة الدينية والصوفية، الوظيفة الاجتماعية، الوظيفة السياسية والدفاعية، الوظيفة العلمية والثقافية، الزيارة والقصد والطقوس والهبة.
وحتى يكون ختامه مسكاً، نقرأ أربعة ملاح، خُصّص الأول لعرض لائحة من النصوص الشعرية والثقافية، وخصّصَ الثاني لعرض الوثائق والظهائر وصور أوائل بعض الكتب، وخُصّص الثالث لعرض الخرائط والرسوم والصور الفتوغرافية التشكيلية، وأخيرا، خُصّصَ الملحق الرابع لاستعراض لائحة أغلب الأولياء المعروفين والمجهولين والمترجم لهم داخل هذه الموسوعة النفيسة.
لسنا بصدد تحرير قراءة في هذا العمل الهام بقدر ما نروم التنبيه إلى صدور عمل نوعي، من باب التعريف والانتصار لمعالم تصوف مغربي أصيل في المجال الثقافي المغربي، لاعتبار بَدَهي، مفاده أن الأخذ بعين الاعتبار أننا إزاء عمل جاء موزعاً على 1102 صفحة، (تضمن 55 صفحة مخصصة لعرض لائحة المراجع العمل باللغة العربية والفرنسية والإنجليزية)، فإنه يستوفنا الاستفسار التالي: “ما العمل” والحالة هذه عندما يتعلق الأمر بتحرير أعمال بحثية حول نفس الظاهرة في مجمل التراب المغربي وليس في مدينة مغربية وضواحيها؟