معظلة تزييف الوعي باسم الدين.. المشروع الإخواني 2/3
منتصر حمادة
توقفنا في حلقة أمس عند معضلة تزييف الوعي باسم الدين، الممارسة من طرف بعض الحركات الإسلامية، من خلال وقفة مع النموذج أو المشروع الإخواني في فرنسا، وجاء النموذج التطبيقي، على هامش تغيير إسم المشروع هناك من “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” نحو “اتحاد مسلمي فرنسا”، وفي ما يلي، وقفات نقدية أخرى.
ــ لا يقل الأمر فداحة في التصريحات الموالية للقيادي الإخواني، وخاصة عندما يتحدث عن أسباب تغيير إسم الفرع الفرنسي للمشروع من “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” إلى “اتحاد مسلمي فرنسا”، حيث نقرأ له: “سايرنا تطور الجالية الإسلامية في حضورها واندماجها وصرنا أبناء هذا البلد ولم نعد أجانب”، والحال أن هذه الجالية المسلمة، لم تطلب قد من أي مؤسسة ما، بما في ذلك المؤسسات الإسلامية القائمة منذ عقود، والمقربة من بعض دول المنطقة المغاربية، أن تكون ناطقة باسمها، بل لم نسمع قط عن أي استفتاء صدر عن هذه الجالية حول موضوع “النطق باسم مسلمي فرنسا”، أو “الحديث باسم مسلمي فرنسا”، وحتى المؤسسات القائمة، فإنها منخرطة في مبادرات، بتنسيق مع وزارة الداخلية الفرنسية، أو مع قصر الإليزي، تروم البحث عن صيغة مثالية أو توفيقية بخصوص تمثيل المسلمين لدى السلطات الإدارية في معرض تدبير العديد من القضايا، من قبيل تأسيس المساجد، تكوين الأئمة.. إلخ، وقضايا أخرى، وفي جميع الحالات، لا يتعلق الأمر بالحديث باسم المسلمين.
ليس هذا وحسب، بل إن خطيب الجمعة، في أي دول عربية، لا يزعم أنه ناطق باسم المسلمين، أو ناطق باسم الدولة، لأن للدولة عقل، وهناك حاكم، سواء كان رئيساً أو ملكاً أو أميراً، هو الذي يُعتبر ممثل الدولة لدى الشعب ولدى الخارج، وليس خطيب الجمعة أو وزير الشؤون الدينية أو فاعل آخر، ولذلك، لا تتجاوز وظيفة خطيب الجمعة هنا، مهام الوعظ والتوجيه والإرشاد، وهذا هو الأصل وهو السائد منذ قرون في المنطقة العربية، من أجل تفادي تحويل منابر الجمعة إلى ساحة معارك سياسية أو إيديولوجية، وإذا كان هذا هو الوضع القائم في الساحة العربية الإسلامية، فمن باب أولى أن يكون كذلك في مجالات ثقافية غربية، تتميز بوجود جاليات مسلمة، إلا أن الأمر مختلف مع العقلية الإسلامية الحركية، ومنها العقلية الإخوانية، التي تربت على أدبيات “الأستاذية” على العالم، بما يُخول للقيادي سالف الذكر، الزعم أنه يتحدث من حيث يدري أو لا يدري باسم الجالية المسلمة في فرنسا، والتي لم تطلب منه، ولا من غيره، أن يكون ناطقاً باسمها.
صحيح أنه منسجم مع نفسه ومع المشروع الديني الإيديولوجي الذي ينتمي إليه، إذا كان يتحدث بإسم إخوان فرنسا، ما دام الأمر يتعلق بمعرض يُنظمه هؤلاء، ولكنه لا يمكن أن يكون منسجماً مع التعددية الثقافية لمسلمي فرنسا، إن زعم الحديث باسمها، لأن هذه الجالية التي يُناهز عددها سبعة ملايين نسمة، تضم عدة توجهات في التديّن، ولا تضم التديّن الإخواني وحسب، الذي يبقى أقلية أساساً هناك، على غرار السائد هنا في المنطقة العربية.
ــ صدر هذا التصريح عن القيادي الإخواني في أبريل 2017، والذي يمكن أن يتوهم قارئه، أن الأمر يهم جالية مسلمة تعيش في حالة انعزالية؛ بينما صدر خطاب الرئيس الفرنسي عن الانعزالية أيضاً في أكتوبر 2020، لولا أنه شتان ما بين الانعزالية التي جاءت في خطاب القيادي الإخواني، والانعزالية التي جاءت في خطاب الرئيس الفرنسي، وبيان ذلك كالتالي:
كان الرئيس الفرنسي واضحاً وصريحاً في تحديد الفئة المعنية بمعضلة الانعزالية أو الانفصالية، وهي الفئة الإسلامية الحركية بالتحديد، وليس الجالية المسلمة، حتى إنه تحدث عن “الانعزالية الإسلاموية” [séparatisme islamiste] أو “الانعزالية الإسلامية الحركية”، ولم يتحدث عن انعزالية المسلمين، لأنه صانع قرار، وهناك مؤسسات ومراكز بحثية تشتغل على واقع مختلف مكونات المجتمع الفرنسي، ومنها الجالية المسلمة، ومؤكد أن هذه الهيئات والمراكز البحثية، تفرق بين أداء المسلمين في النسيج المجتمعي الفرنسي وأداء الإسلاميين؛ بينما الأمر مختلف مع خطاب القيادي الإخواني، لأنه يتحدث عن الانعزالية، دون أن يُحدد بالضبط من المقصود بها، وأخذاً بعين الاعتبار أن مسلمي فرنسا، غير معنيين بها، رغم مشاكل البطالة والإدماج الاجتماعي والأزمة الاقتصادية، قبل أزمات “جائحة كوفيد 19″، وأخذاً بعين الاعتبار أيضاً أن تقرير لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ الفرنسي الصادر في يوليو 2020، تحدث عن الانعزالية التي نجدها عند التيارات الإسلامية في فرنسا، فإن المقصود بالانعزالية في خطاب الداعية الإخواني المعني هنا، هو المشروع الإسلامي الحركي هناك، وليس الجالية المسلمة، كأنه يؤكد من حيث لا يدري ما يصدر بعد سنتين ونصف في خطاب رسمي صادر عن أعلى سلطة سياسية في البلاد.
ــ من نتائج تغيير إسم المنظمة التي تمثل المشروع الإخواني في فرنسا، أنه تم إصدار “ميثاق جديد عبر مراجعة شاملة للقوانين الداخلية للاتحاد على مستوى الخطاب والأهداف والأولويات”، لأنه، بتعبير القيادي نفسه “نعيش إكراهات وتحديات كبيرة تستلزم تجديد آليات عملنا والرد على المتربصين بنا”، ومن يقرأ هذا الخطاب الذي يُروج في معرض ديني، ويتحدث عن “الأهداف” و”الأولويات” و”المتربصين”، قد يعتقد أننا في حالة حرب مجتمعية تهم المنظومة الإيديولوجية التي تقف وراء تنظيم المعرض من جهة، أو تهم “مسلمي فرنسا” الذين يزعم القيادي أنه يتحدث باسمهم، والحال أن السيناريو الأول متوقع من العقلية الإخوانية، أي الحديث مع الغير، انطلاقاً من أرضية المؤامرة والريبة والصدام، لأنها تربت على تلك الأدبيات، وليس صدفة أن مؤشر خطاب المؤامرة مرتفع عند أتباع المشروع الإسلامي الحركي؛ لكن الأمر مختلف إن كان خطاب المعركة هذا يهم مسلمي فرنسا، لأن السواد الأعظم من المسلمين هناك، مندمجون في المجتمع الفرنسي، بل منهم من أصبح يُصنف في خانة النخبة كما سلف الذكر، ورغم وجود عدة تحديات وإكراهات، من قبيل التحديات المرتبطة بالإقامة في الضواحي، ارتفاع نسبة البطالة، القلاقل التي تتسبب فيها الحركات الإسلامية، سواء تعلق الأمر بالقلاقل الصادرة عن التيار الإخواني أو عن بعض حالات “التطرف العنيف”، فإن هذه الجالية منخرطة ومندمجة ولا ترفع شعارات الأهداف” و”الأولويات” و”المتربصين” في وجه المجتمع الفرنسي أو الدولة الفرنسية.
ــ وتتضح عقلية المؤامرة هذه التي ينهل منها المشروع الإخواني، أينما حلّ وارتحل، في مضامين التصريح الصادر عن نائب رئيس الفرع الفرنسي، بوبكر الحاج عمور، والذي اعتبر أن الحملة التي يشنها اليمين المحافظ واليمين المتطرف ضد “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” التي اتهماها مراراً بالارتباط بجماعة الإخوان المسلمين وهددا بحلها”، تزداد “حدتها كلما اقتربت الاستحقاقات الانتخابية، إضافة إلى مواقفهم المعادية للإسلام والمسلمين”، وكان عليه أن يُذكر المتلقي بأن هذا اليمين الفرنسي، ينتقد بالدرجة الأولى هذا الاتحاد الإخواني، وأن ما يصدر عن قيادات هذا المشروع، في التفاعل مع العديد من قضايا الساحة، يصب في تغذية خطاب اليمين، مع أن الإسلاميين أقلية أساساً مقارنة مع نسبة مسلمي.
أما موقف اليمين نفسه من الإسلام والمسلمين، سواء كانت نقدية أو عدائية، فهذه معضلة أوربية بشكل عام، ولو إنها أقلية، ولا نسمع عن انخراط مسلمي فرنسا أو مسلمي أوربا في إعلان معارك وصراعات أو حروب ضد اليمين المحافظ أو اليمين المتطرف، بقدر ما نعاين انخراط أغلب المسلمين هناك في العمل بقاعدة “الدين المعاملة”، سواء في المعامل والإدارات والمؤسسات والجمعيات وغيرها، دون إثارة قلاقل سياسية أو إيديولوجية أو دينية أو غيرها، وهي القاعدة التي جعلت نسبة من هذه الجالية تنتمي إلى النخبة الفرنسية، وتحظى باحترام صناع القرار والرأي العام، وما كان لها أن تصبح كذلك، لو كانت تواجه خطاب اليمين المحافظ واليمين المتطرف بخطاب إسلامي متطرف مضاد.